سياسيونا لا يحكمون، بل يُمثّلون. يتقنون الظهور، يتناوبون على الكاميرات، يوزّعون التصريحات كما تُوزَّع الحلوى في مجالس العزاء.
يتحدثون عن الإصلاح كأنهم أنبياؤه، ويتصرفون كأنهم أوصياء على الفشل.
نعم، نحن في بلد يتغنّى بحرية التعبير، ما دمتَ تعبّر داخل الزنزانة الفكرية التي رسمها زعيمك.
قل ما تشاء، ما دام كلامك لا يزعج شيخ الطائفة، ولا يهز صورة المرجع، ولا يهدّد شبكة المصالح التي ينتفع منها ملوك الطوائف.
وها هو توم باراك، آخر ضيف في لائحة الوعود، يسمع ما سمعه غيره:
الإصلاح آتٍ… الإجراءات قريبة… القرار سيُتخذ…
لكن ما يُؤخذ فعلاً هو عمرنا، ما يُسرق هو يومنا، وما يُدفن هو ما تبقى من فكرة الوطن.
ولعلّ توم باراك، الذي سمع كما سمعنا، لخّص الكارثة بجملة واحدة:
“لبنان في خطر وجودي، وإذا لم يتحرك، فسيعود إلى بلاد الشام.”
عبارة لا تحتمل التأويل ولا الانتظار.
فمن لا يتحرك اليوم، لن يجد كياناً يُدافع عنه غداً.
قيادات محترفة في فن إدارة العجز.
هنا، لا تُبنى الدول.
هنا، يُبنى التأجيل.
نعيش تحت سلطة لا تحكم، ولا تسمح لغيرها أن يحكم.
سلطة تربّت على التعطيل، وتعيش منه، وتُجيد استثماره.
سلطة تُتقن لعبة الانتظار، لأنها تدرك أن مرور الوقت دون تغيير يخدم بقائها.
لا قرارات تُتخذ إلا بإجماع. ولا إجماع يتحقق إلا إذا خرج القرار بلا لون، بلا طعم، بلا أثر.
إنهم لا يريدون نظاماً يعمل من تلقاء نفسه، بل منظومة تحتاج كل مرة إلى مفتاح خارجي، أو إذن داخلي، أو تهريب سياسي.
كل شيء في هذا البلد قابل للتفاوض،،، حتى السيادة، القوانين، الحقوق، المناصب، والكرامة.
لا شيء مقدّس إلا مصالح الزعماء.
وحده لبنان، الذي يُفترض أن يكون فوق كل مساومة، صار أقل من بند على طاولة صفقات داخلية وخارجية.
وإذا احتجّت، قالوا لك: “التوقيت غير مناسب”، “الظرف حساس”، “دعنا لا نُغضب أحداً”.
حتى الحقوق تُخضع للتوازنات، وحتى المؤسسات تنتظر الرضا السياسي لتعمل.
منذ عقود، نعيد إنتاج الأزمة نفسها، ونُبدع فقط في خلق أعذار جديدة لها.
الشعب أسير الخوف، والطائفة، والعادة.
لكنّ الزعماء أسرى لمعادلة أبسط: لا تبنِ ما لا يمكنك السيطرة عليه.
لذلك لا يريدون قضاءً مستقلاً، لأنه سيُحاسب.
ولا جيشاً قوياً، لأنه سيفرض الأمن.
ولا مؤسسات حقيقية، لأنها ستُغني الناس عن الزعيم.
كل مكوّن من مكوّنات الدولة، خاضع لحسابات الربح والخسارة.
كل مشروع وطني يُسقطونه بحجة أنه يزعج “التوازن”.
كل مبادرة نزيهة تُدفن لأنها تهدّد طبقة لم تنجح في شيء إلا في حماية نفسها.
لأنهم لا يريدون جمهورية، بل مزرعة.
المشكلة ليست أننا على وشك أن نفوّت فرصة، بل أن مَن يُمسكون بالسلطة لا يريدون الفرصة أصلاً.
القطار لا يفوتنا، نحن من يرفض صعوده.
لأن صعوده يتطلب ما لا يحتملونه: إصلاح حقيقي، مؤسسات، شفافية، ومحاسبة.
هم لا يريدون دولة عادلة تُحكم بالقانون.
لا يريدون إدارة حديثة، ولا قضاء نزيه، ولا مؤسسات تُحرّر الناس من الابتزاز.
يريدون “لبنانهم”…
لبنان الدولة الراكعة، الناس المطيعة، والإصلاح الممنوع.
إذا أردنا التغيير الحقيقي، علينا أن نبدأ من خطة لا لبس فيها:
١) قانون انتخابي يُحرّر الناس من الزعيم.
٢) قضاء مستقل يحاسب الجميع.
٣) نهاية واضحة لدور رجال الدين في السياسة.
٤) ضبط الصلاحيات بحيث لا يتمكن أي طرف من تعطيل البلد.
٥) قرار واضح: لا سلاح خارج الدولة، ولا دولة داخل الدولة.
وإلّا، فلن يكون لنا وطن، بل أرض نُدفن فيها بلا كرامة.
سنعيش غرباء بين الركام، نُحمّل أبنائنا وزر سكوتنا، ونورثهم وطناً بلا دولة، مليئاً بزعماء فقدوا الشرعية والضمير.
وعندها لن يُقال إننا خُنّا الوطن، بل أننا تركناه يُذبح بصمت.
تماماً كما حذّر توم باراك:
لبنان في خطر وجودي. وإذا لم نتحرك، فلن تبقى لنا جمهورية، بل ذكرى في خرائط الشرق القديم.
لبنان أولاً، لبنان فقط.