الدكتور نسيم الخوري
في لقائنا الأخير مع الرئيس ميشال عون عبر “اللقاء التشاوري”، حاورنا الرجل مسكوناً وملحاحاً بمعضلة مزمنة بارزة في حديثه هي كيفية تخليص لبنان واللبنانيين من الطائفية والخطب الطائفية. ولطالما كانت المحاورات وتطلّعات اللبنانيين بمختلف طوائفهم تتحاور وتتجاور تحت شجرة التين عند عين التينة كنت أسأل الأخ الرئيس برّي بجدّية مطلقة: متى ستفتح الباب لينتسب لبنان إلى حزب يتجاوز الطوائف؟ كنت أقرأ الرغبة طافحةً في عينيه وملامحه لكنها مستدركة كونها خيالية تشارف المستحيلات في واقع لبنان واللبنانيين.
ترك فيديو مسرَّب لوزير الخارجية اللبنانيجبران باسيل، يتناول فيه رئيس مجلس النواب نبيه بري بنعوتٍ وأوصاف قاسية، الكثير من الأنقاض والحرائق المتنقلة في شوارع لبنان وعاصمته ومدنه وقراه وساحاته كما في أمزجة اللبنانيينالسياسية والخوافات الأمنية. لن أكرّر تلك الأوصاف مستذكراً رأي روي طومسون( 1894-1976) إمبراطور الصحافة البريطانية إذ كان ينصح الصحافيين بعدم تكرار الهفوات وزلاّت اللسان والأخطاء وذكرها عند نشر الإعتذار أو التصحيح أو التصويب وإلاّ فإنّ الخطأ ينتشر كما النار في الهشيم وكأننا بذلك ننادي من فاتهم الخبر أو الخطأ إلى التجمّع مجدداً لمعرفة ما حصل. وأكثركان يقول: ماذا ترانا نفعل حيال خطأ طباعي تافه غير مقصود ظهر بعد طباعة الجريدة ؟ لا شيء. إنّه كما الحشرة السوداء الطافية فوق قدرٍ من اللبن يستوجب الإعتذار المبهم المهذّب لا الإفصاح أو التكرار اللذين لا يضيفان الى ما ارتكب سوى المزيد من التأزيم.. عجباً لماذا يرقص بعض الإعلاميين وينتشون عند تأزّم الأوضاع الى الحدود التي تبدو وكأنّها تتجاوز اللذة الجنسية؟تغيّر العصر اليوم إلى درجة هجرة الأخلاق الإعلامية والمسؤوليات من الأحرام الجامعية والوسائل الإعلامية وساحات وسائل الإتصال الإجتماعية.
صحيح أنّه “في البدء كان الكلمة، كما أوردها يوحنا، وكان الكلمة الله…” وأنّ الكلمة كانت وستبقى مقصلة في علاقات الأفراد والدول، لأنّها ما زالت تجرح وتورّث الكلوم والندوب وما أكثر نماذجها المعاصرة من حولنا، وصحيح أنّ الكلمة خرجت أساساً من رحم الكلم بفتح الكاف وكسر اللام وهي تعني الجرح وتجعلنا نتلقّف وقع المنطوق خارجاً من الشفتين المشقوقتين كما الجرح في صفحة الوجه سكيناً يحمل القذاعة والعداوة والإنقسامات والفتن والحروب لا باباً للكلام الذي يحمل التعبير والمؤآنسة ويصقل اللغة ويبعثها أو يحمل الفكر والإقناع أو غبار ما يعتمل في النفس من قهرٍ كما قال جبران خليل جبران، لكنّ الجديد والأصحّ، أنّ كلمة “تسريب” لأنّها رسبت ولا قيمة لها بعد في هذا العصر “الويكيليكسي” الذي ينزع الحجب عن كلّ ما يقال في السرّ والخفاء ويفضح المقال وحتّى اللامقال ويرفع الأغطية عن كلّ ما يهمس به اللسان صائناً أو خائناً لصاحبه.كان في القاعة فتاة إلتقطت بالجوّال أو السلطة المعاصرة الخفيّة ما أباح به الوزير باسيل وعبر “الواتس آب” عمّمته بكبسة بسيطة ليسقط اللسان والحصان ولبنان في ميدان المحارق.
ما حصل ويحصل وسيحصل لم يكن مفاجئاً. هذا يستدعي الحكمة العربيّة القائلة بأنّه “القشّة التي قصمت ظهر البعير” أو أنّه مشابه لجناحي فراشةٍ طارت في أفريقيا فأخلّت بالتوازن فاسحة في المجال لهزّةٍ أرضية كما يشرح لنا علم البيولوجيا. سبق قرع جرس الإنفجار في هذه الصفحة بالذات من صحيفة الخليج الغرّاء (20/1/2017) بعنوان” خوفاً من فكّ اللحام”، على إعتبار أنّ الدستور اللبناني ليس “دستور إيمان” وهو ليس من روح القرآن ويحرّم علينا حلّ مآزمنا بالحوار والتقارب والتعديل والتغيير.
يتراجع لبنان،إذن، وتتراكم الإنقسامات ويشعر المواطنون وكأنّهم يدفعون مجدداً الى التجمّع فوقحفافي الانفجارات والحروب التي لطالما هزّت جذورهم وراكمت شهداءهم صوراً تمتليء بها جدران مدنهم ومعاقين ومشوّهين يدمنون مستشفياتهم وعائلات وأبناء وبنات يهاجرون الى منافي الأرض. أمس، إتّصل بي زميل من باريس قائلاً بأنّ ردّة فعل ولده على ما رآه على الشاشات كانت تمزيق هويته و”الإنغماس كليّاً بحياته الفرنسية”.
وعلى الرغم من أنّ اللبنانيين إعتقدوا بأنّ رئيس الجمهورية ميشال عون قد إنتزع الفتيل المشتعل بدعوته إلى التسامح لأنّ ما حصل هو خطأ بني على خطأ، فإنّ ردود الفعلهي أعمق من الأفعال ولربّما ستقودنا في التجاذبات الطائفية الى فهم معاني التثليث أو التوازن الجديد في مستقبل السلطات اللبنانية.وقد يحزن المتابع بل يخاف عند توصيف الحقد المتبادل ومتابعة النصوص التي تتجاوز القيء الذي تشتعل به مواقع التواصل الإجتماعي في لبنان بدلاً من التخفيف والتلطيف والتعقل إستدعاءً للسلم الأهلي والهدوء