د. عبد الحي زلوم
كان لبنان هو وفلسطين وشرق الاردن وسوريا جزءاً من ولاية الشام . بعد أن قسّم الاستعماران البريطاني والفرنسي المشرق العربي الى دويلات طائفيةً واثنيةً وعائلية وقبلية تمّ هيكلة الدولة اللبنانية على اسس طائفية ليبقى ضعيفاً وهنا جاءت اكذوبة مقولة أن قوة لبنان في ضعفه . وفعلاً كان كذلك . في سنة 1948 كان من المفروض أن يدخل لبنان مع الجيوش العربية لفلسطين لمقاتلة الصهاينة . كان عدد الجيش اللبناني آنذاك 3500 جندي من كتائب المشاة. وقبل يوم واحد من موعد الدخول الى فلسطين قرر الرئيس اللبناني بشارة الخوري عدم دخول المعركة. جميع دويلات سايكيس بيكو التي انشأها الاستعمار لخدمته وخدمة مشاريعه بما فيها تأسيس الكيان الصهيوني ساهمت في بناء ذلك الكيان وحمايته حتى يومنا هذا سراً واليوم شبه علانية وعلانية .
وأفضل وصف لذلك ما قاله غلوب باشا قائد الجيش العربي الاردني الانجليزي آنذاك والذي كان الصف الأول والثاني من ضباطه ايضاً من الانجليز. كتب جون باغوت جلوب : ” لم يكن المسئولون العرب جادين في الذهاب للحرب.. إلا أنهم دخلوا ( فلسطين) في النهاية وأمروا قادتهم العسكريين بالتقدم تحت وطأة الضغوط الشعبية والرغبة في تهدئة الشارع″.
لا توجد انباء تُسر هذه الايام لكن ما حدث في المشهد اللبناني خلال الايام القليلة الماضية امرٌ هام له مغزاه ودلالاته ويحتاج الى تحليل والاجابة على السؤال : ما الذي حدث لينقلب لبنان الضعيف الى أول دولة عربية تستطيع أن تجابه عربدة العدو الاسرائيلي قولاً وفعلاً وأن يكون هو البلد العربي الوحيد الذي استطاع ان يُجبر الاحتلال الصهيوني في الانسحاب من جنوب بلاده دونما قيد ولا شرط في جُنح الظلام وأن يقاوم 33 يوماً مقابلَ أكبر عدوان تمّ استعمال أطنان الأسلحة فيه وكافة وأحدث أنواع الصواريخ والطائرات ، في حين لم تصمد 3 دول عربية اصغرها أكبر منه حجماً وتعداداً لاكثر من 6 ساعات لا 6 ايام كما يدّعون. وبقي ما أُحتل من اراضيها رهينة لعشرات السنين ولم يخرج المحتل منها الا بعد تنازلات كبيرة عن سيادة تلك البلدان. والجواب بسيط وهو أنّ لبنان الصغير قد نشأت داخله مقاومة شعبية وطنية تلاحمت مع الجيش والشعب. ولعلّ أزمة حائط الحدود و مربع الغاز 9 في البحر مع الكيان الصهيوني مثالاً ناصعاً على ذلك .
المشكلة هي أن الجيوش العربية تمّ انشاؤها منذ عهد الاستعمار والى يومنا هذا لتدافع عن الانظمة لا عن الأوطان وأنها لم تدخل حرباً طوعاً وإنما نتيجة ضغوط جماهيرية وبطريقة مآساوية غير محسوبة . فلنأخذ حرب 1948 . كانت هزيمة الدول العربية مدوية مع أن تعداد سكانها كان يقارب 80 ضعف عدد سكان الكيان الصهيوني آنذاك .
منظر الرؤساء الثلاثة وهم الرئيس اللبناني الماروني ، ورئيس مجلس النواب الشيعي، ورئيس الوزراء السُني ، يتخطون الطائفية والاثنية والقبلية ليأخذوا موقفاً موحداً بالنسبة الى الدفاع عن وطنهم في الحدود وعن ثروتهم الطبيعية في البر والبحر . جاءهم الوسطاء الامريكيون وهم لم يطلبوا الوساطة وتمّ مزج دور الدولة وجيشها والمقاومة وقوتها لخدمة اوطانهم .
من يجرأ من الدول الحليفة للولايات المتحدة وبالتالي للكيان الصهيوني ان يقف مثل هذا الموقف دفاعاً عن حقوقه؟ سمحت الديمقراطية اللبنانية بما لها وعليها بالحوار مما أنجح لبنان الرسمي في تحويل التهديدات الإسرائيلية إلى فرصة لتعزيز التضامن الداخلي، الذي ساهم في إيصال رسالة واضحة للعدو، مفادها أن أي تخط للحدود برياً كان أو بحرياً، لن يكون الرد عليه تقليدياً.
في اجتماع المجلس الأعلى للدفاع في القصر الجمهوري الذي واكبه مجلس النواب باجتماع للجنة الأشغال العامة كان القرار واضحاً: «غطاء سياسي للقوى العسكرية لمواجهة أي اعتداء إسرائيلي على حدود لبنان في البر والبحر» .
في 8-2-2018 قال الحريري لقائد الجيش: قرارُنا مواجهة إسرائيل والتأكيد أن «الجدار الإسرائيلي في حال تشييده على حدودنا يعتبر اعتداءً على سيادتنا وخرقاً للقرار 1701».
ومقابل الموقف الرسمي الموحد الرافض لتصريحات وزير حرب العدو التي يدّعي فيها أن البلوك رقم 9 يعود للكيان الصهيوني، برز موقف لوزير النفط الإسرائيلي يعيد الأمور إلى نصاب التهدئة، إذ أعلن أن إسرائيل تسعى إلى حل مع لبنان عبر وساطة أجنبية بشأن البلوك رقم 9، مبدياً استعداد الحكومة الإسرائيلية للمضي قدماً من أجل حل ديبلوماسي للمسألة. إلا أن هذا التصريح لم يلقَ صداه في لبنان. وسط هذه الأجواء جاء نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد ساترفيلد بمبادرة منه لزيارة بيروت في مسعى إلى احتواء التوتر حيث قابل الرؤساء الثلاثة للجمهورية و النواب والوزراء .
قال الرئيس بري إن «الإجماع اللبناني هو ما يضمن حقّنا في حماية أرضنا ومياهنا». وأشار إلى أن لبنان لن يتنازل عن حقّه في الـ 860 كلم2 البحرية.
في واقع الامر فإن قوة جيش الكيان الصهيوني هي نقطة ضعفه بل ومقتله كونه جيشاً شعبياً يمثل اقصى درجات الكفاءة الادارية باستغلال كافة الموارد البشرية وقت الازمات والحروب ومقتله ايضاً يأتي من نفس هذه النقطة حيث أنه لا يستطيع تحمل حروب طويلة لأن ذلك سيخنق الاقتصاد والحياة الطبيعية كون نسبة كبيرة من المجتمع قد اصبحت في ساحة المعارك وتخلت عن وظائفها المدنية في كافة القطاعات الادارية والاقتصادية. فلذلك كان العدو دوماً يخطط لحروبٍ قصيرة كان هو الذي يختار اوقاتها بالتآمر مع بعض الانظمة والتحالف مع قوى الغرب المعادية .
كان هناك قانون العواقب غير المحسوبة . احتلال الكيان الصهيوني للبنان كان سبباً في نشوء حزب الله والمقاومة اللبنانية . ولان المقاومة كانت عقائديةً لا تساوم فقد انطلقت لتصبح نقمةً على الكيان الصهيوني والخطر الوجودي عليه وقوة ردعه .
والمفارقة هي أن قادة حزب الله وعناصره قد تدربوا في معسكرات الفلسطينيين في جنوب لبنان .
ونحن نرى اليوم اين وصلت قوة النضال والمقاومة في لبنان مقارنة مع العمل الانتهازي الذي يعمل على طريقة ميكيافلي كما منظمة التحرير الفلسطينية، فأين أصبحت اليوم منظمة التحرير ونهجها المساوم وأسلو ودايناصوراتها العاملون وكلاء للاحتلال ضد المقاومة الوطنية الفلسطينية ؟
ومن المفارقات ايضاً أنّ الشيعة في لبنان كانوا الفئة الأكثر تهميشاً بل وكان جيش المرتزقة العميل للكيان الصهيوني مثل لحد في غالبيته من الشيعة في خدمة دولة الاحتلال وهنا يتبين كيف أنّ القيادة الوطنية المخلصة و المقاومة حولت هذه الفئة الى القوة الاكثر تأثيراً في لبنان والأكثر إنتماءاً وطنياً للبنان ولقضية العرب والمسلمين الاولى فلسطين .
لعلّ ما يمكن استنتاجه بشكل قطعي هو أنّ المقاومة هي السبيل الوحيد للتعامل مع الكيان الصهيوني وعدا ذلك فهو مضيعة للوقت والجهد .
في 29 تموز (يوليو)2017 قال سفير إحدى دول حصار قطر لدى واشنطن في مقابلة مع إحدى محطات التلفزة الامريكية ونقلتها وكالات انباء دول الحصار جاء فيها ان مشكلة دول الحصار مع قطر هي بالاساس فلسفية عقائدية اذ قال : “نحن نريد دولاً علمانيةً وعلى قطر التوقف عن الدعم للجماعات الاسلامية “. وأضاف :”إن وجود قيادات حماس وطالبان والاخوان المسلمين في الدوحة ” هو ضد أهدافنا بأن يكون هناك شرق أوسط علماني !”
يتساءل المرء هنا هل جماعات التكفير التي ساندتها دول الحصار بما فيها قطر كانت علمانية ؟ أم أن هذه الزوبعة هي امتدادٌ الى حرب الاجيال ضد الحضارة الاسلامية والاسلام والتي كشف عنها مدير المخابرات المركزية الامريكية الاسبق جيمس وولسي والتي اسماها الحرب العالمية الرابعة وتتم اليوم بايدي عربية واسلامية متحالفةً مع الكيان الصهيوني وتتطابق معه في الاهداف والمصالح ؟ ونسأل هل الدولة التي تُصر على أنها دولة يهودية هي دولة علمانية