منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وما تبعه من إسقاط نظام البعث بقيادة صدام حسين، شهد العراق تحولًا جذريًا في معادلة الحكم، حيث تم تسليم السلطة للأغلبية الشيعية التي كانت مهمّشة لعقود. المشهد ذاته تكرر في سوريا ولكن بصورة معكوسة، فبعد الحرب الأهلية ومحاولة إسقاط نظام بشار الأسد، برزت قوى سنّية ساعية لاستعادة السلطة بعد عقود من حكم الأقلية العلوية. هذه التحولات لم تكن مجرد أحداث عشوائية أو نتائج طبيعية لانهيار الأنظمة، بل تبدو وكأنها امتداد لصراع تاريخي أعمق، يتجدد كلما خفتت حدّته.
هل هو صدفة؟ أم إعادة تشكيل للخارطة الطائفية؟
لا يمكن فصل هذه التحولات عن الإرادة الدولية التي أعادت تشكيل أنظمة الحكم وفق معادلات جديدة تخدم مصالحها. فإسقاط حكم الأقلية البعثية في كلا البلدين ترافق مع تصعيد الطابع الطائفي في الصراع، ما أدى إلى تكريس الانقسامات المجتمعية وتعميق الهوة بين المكونات المختلفة.
يرى البعض أن هذا التحول هو “تصحيح ديموغرافي” للمعادلة السياسية، حيث تسلمت الأغلبية الطائفية السلطة بعد عقود من التهميش. لكن هذا “التصحيح” لم يكن مسارًا سلسًا نحو الديمقراطية، بل جاء محملًا بصراعات دموية، وتحولت الدولتان إلى ساحات حرب بالوكالة بين قوى إقليمية ودولية، وكأنّ المشهد يعيد تمثيل الصراع التاريخي بين العهدين الأموي والعباسي: دمشق كرمز للسلطة السنية، وبغداد كرمز للسلطة الشيعية.
لماذا كلما هدأ الصراع الطائفي يُعاد إشعاله من جديد؟
مع كل محاولة لتهدئة النزاع الطائفي، تُفتح جبهات جديدة من التوتر، وكأن هناك من يسعى لإبقائه حيًا. فهل يعود ذلك إلى إرادات محلية تسعى لترسيخ سلطتها عبر تأجيج الانقسام، أم أن الفاعل الدولي يرى في هذا الصراع أداة لإدارة النفوذ وإعادة ضبط توازنات القوى في المنطقة؟
في هذا السياق، لا يمكن إغفال الدور الذي لعبه نظام ولاية الفقيه في إيران منذ عام 1979 في تعزيز البعد الطائفي للصراعات الإقليمية. فمنذ نشأته، تبنّت طهران سياسة تصدير الثورة، محاوِلة إثارة الفتنة الطائفية في العراق والدول المجاورة. غير أن نظام صدام حسين، رغم استبداده، نجح خلال الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988) في تحييد هذا العامل عبر تبنّي خطاب قومي ووطني حال دون انتشار الطائفية في المجتمع العراقي أو الإعلام الرسمي. لكن بعد سقوطه عام 2003، تم توفير مناخ مثالي لطهران لفرض نفوذها الطائفي، بمباركة أو على الأقل بغض طرف من الفاعلين الدوليين، الذين لم يسعوا إلى تحجيم الدور الإيراني بل تركوا له هامشًا واسعًا للتحرك، وكأنه أُريد له أن يكون
المعول الهدام للشعوب العربية.
التجربة التاريخية تشير إلى أن الفوضى والصراعات المذهبية غالبًا ما يتم توظيفها كأدوات لإعادة تشكيل الخرائط السياسية، سواء عبر إضعاف الدول وتقسيمها، أو عبر خلق بيئات أمنية مضطربة تبرر التدخلات الخارجية. فالمنطقة، رغم كل محاولات الاستقرار، لا تزال تدور في فلك الصراعات نفسها التي طُبعت في ذاكرتها منذ قرون، مع تحديث مستمر للأدوات والأساليب.
هل المنطقة مقبلة على صراع طائفي جديد؟
مع تصاعد الاستقطاب الإقليمي والدولي، وعودة التوتر في العراق وسوريا، يبدو أن سيناريوهات التصعيد لا تزال قائمة. فالتحولات الجيوسياسية، خصوصًا مع انحسار النفوذ الأميركي وبروز قوى جديدة، قد تدفع اللاعبين الإقليميين إلى إعادة تفعيل الأدوات التقليدية للصراع، ومنها الورقة الطائفية.
لكن السؤال الأهم: هل الشعوب ستبقى رهينة لهذه الدوامة، أم أن هناك إمكانية لصياغة نموذج جديد يخرج المنطقة من فخ الصراعات التاريخية؟ الإجابة تعتمد على مدى وعي القوى الوطنية، وقدرتها على تجاوز المشاريع التي تستغل المذهبية كأداة لإبقاء الشرق الأوسط في حالة من عدم الاستقرار .