قبل أن يؤكد مصدر حكومي ليبي، اليوم الأثنين، إقالة رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش، على خلفية لقائها “السرّي” بنظيرها الإسرائيلي إيلي كوهين في روما، عاشت مدن الغرب الليبي ليلة عاصفة، اختلطت فيها الأوراق وعمت مظاهر الفوضى والعنف الشوارع، بعد كشف النقاب عن اللقاء الذي عدّته تل أبيب “إنجازاً تاريخياً نحو تطبيع العلاقات”، فيما وضعه المحتجون الليبيون في خانة “الخيانة”.
ثمة تساؤلات عدة ستظل مفتوحة بشأن خلفيات لقاء الوزيرين والترتيبات التي سبقته. فوفق مراقبين، اجتماع على هذا المستوى لا يتم بمحض الصدفة، كذلك فإن انفجار الغضب في الشارع بعد ساعات قليلة من كشف وسائل إعلام إسرائيلية بشكل مفاجئ عن تفاصيل الاجتماع، وتمدده إلى المدن الرئيسية في الغرب الليبي: طرابلس ومصراتة والزاوية، أظهر تماسك التيار المناهض لهذا التوجه في الغرب الليبي، وتمدد شعبيته، وطرح علامات الاستفهام حيال عدم تدخل أجهزة الأمن الرسمية وشبه الرسمية للسيطرة على الوضع، بعدما وصل الأمر إلى اقتحام منشآت حكومية، وهو ما لم يكن مسموحاً به خلال احتجاجات معيشية ومطلبية شهدتها العاصمة الليبية من قبل. اجتماع لساعتين… ما علاقة الدبيبة؟وبينما كانت بيانات التنديد والاستنكار تتوالى من الخصوم والحلفاء، في مشهد قلما يجتمع عليه الفرقاء في ليبيا، كان جدل التفسيرات يحتدم حيال خلفيات اللقاء الذي لم يُعلن عن تاريخه، لكن ترجيحات تُشير إلى أنه تم ترتيبه خلال زيارة قام بها الدبيبة الشهر الماضي إلى العاصمة الإيطالية. وإذ يوحي قرار الدبيبة بإيقاف المنقوش إلى أنه لم يكن على علم بالاجتماع، قال اثنان من كبار المسؤولين في الحكومة الليبية لوكالة “أسوشيتد برس” إن رئيس الوزراء كان على علم بالمحادثات بين وزيرة خارجيته وكبير الدبلوماسيين الإسرائيليين.
وقال أحد المسؤولين إن الدبيبة أعطى الضوء الأخضر للاجتماع الشهر الماضي عندما كان في زيارة لروما. وأضاف أن مكتب رئيس الوزراء رتب اللقاء بالتنسيق مع المنقوش.
وقال المسؤول الثاني إن الاجتماع استمر نحو ساعتين، وأطلعت المنقوش رئيس الوزراء على الأمر مباشرة بعد عودتها إلى طرابلس. وقال المسؤول إن الاجتماع توج الجهود التي توسطت فيها الولايات المتحدة لجعل ليبيا تنضم إلى سلسلة من الدول العربية التي تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وفق “أسوشيتد برس”. ووجه فريق أصابع النقد إلى الدبيبة لرعايته اللقاء، وهو ما أكده مكتب الوزيرة المنقوش، فيما ذهب فريق آخر إلى الحديث عن رغبة رئيس الحكومة في الإطاحة برأس الدبلوماسية الليبية منذ فترة، لكنه كان يتمهل في اتخاذ القرار، لاستخدامه ورقة تفاوض في حال انطلقت المحادثات مع قوى الشرق الليبي بشأن توحيد الحكومة.
المنقوش تغادر فجر
اًولفت فريق ثالث إلى خروج المنقوش من مطار معيتيقة فجر الاثنين متجهة إلى تركيا، بعد ساعات قليلة من قرار الدبيبة – مساء الأحد – وقفها عن العمل وإحالتها على التحقيق. وكانت المنقوش دخلت منذ تعيينها في آذار (مارس) عام 2021، كأول وزيرة للخارجية في ليبيا، في صدامات مع الأطراف المتصارعة كافة، إذ سبق أن اشتبكت مع الموالين لتركيا في الغرب الليبي، عندما أطلقت تصريحات علنية بضرورة رحيل القوات الأجنبية كافة من الاراضي الليبية، قبل أن تتراجع وتخفف من حدة تصريحاتها وتوجه نقدها إلى النافذين في الشرق الليبي.
حسابات القوى الأمنية
وبينما كان الجدل يحتدم في الأوساط الإعلامية والسياسية بشأن لقاء روما، كانت التظاهرات تتصاعد في الشارع، وعمد المحتجون إلى اقتحام مقر وزارة الخارجية في طرابلس، قبل تكرار الأمر مع استراحة مخصصة للدبيبة، وبعدها جاء الدور على منزل المنقوش في حي الأندلس, وترافق ذلك كله مع اضرام النار في الإطارات وإغلاق طرق رئيسية وترديد الهتافات الغاضبة والتي حملت في بعضها دعوات لرحيل الدبيبة نفسه، فيما كان لافتاً غياب أجهزة الأمن الليبية خصوصاً في العاصمة عن المشهد، ما فسره البعض “محاولة لامتصاص غضب المحتجين، وعدم استفزاز الكتلة الصامدة المؤيدة للدبيبة”.
الخارجية الليبية توضح… والتشكيك يتواصل
ووسط هذه الأجواء، سعت وزارة الخارجية الليبية إلى التخفيف من حدة الغضب، فأكدت أن لقاء روما “عارض غير رسمي وغير مُعد مسبقاً، أثناء لقاء مع وزير الخارجية الإيطالي انطونيو تاياني، ولم يتضمن أي مباحثات أو اتفاقات أو مشاورات”، مع أن وزير الخارجية الإسرائيلي أكد في بيان أنه تحدث مع وزيرة الخارجية الليبية عن “الإمكانات الكبيرة للعلاقات بين البلدين بما يشمل تجديد المعابد والمقابر اليهودية في البلاد”. كما ناقش الوزيران “العلاقات التاريخية بين البلدين وإمكانية التعاون والمساعدات الإسرائيلية في القضايا الإنسانية والزراعة وإدارة المياه”.
لكن بيان الوزارة الليبية نفى “ما ورد من قبل الصحافة العبرية والدولية ومحاولتهم إعطاء الحادثة طابع اللقاء أو المحادثات أو حتى الترتيب أو مجرد التفكير في عقد مثل هكذا لقاءات”.
المحلل السياسي الليبي عبدالله الكبير قال إن اللقاء “حصل قبل فترة لكن رُفعت عنه السرية أمس، وقد تم بوساطة وزير الخارجية الإيطالي. حتى الآن لم توضح الحكومة دوافع هذا اللقاء وسبب حصوله، لكن أعتقد أن الضغوط المتزايدة على حكومة الوحدة الوطنية والموقف الدولي الغامض من بقائها حتى إجراء الانتخابات، ربما دفع المنقوش سواء بإيعاز من الدبيبة أو بمبادرة فردية منها إلى عقد هذا الاجتماع لمغازلة الولايات المتحدة ودول كبرى أخرى حتى تقف وتساند استمرار بقاء هذه الحكومة”، لكنه لفت إلى أن “الخطوة غير محسوبة وتضع مستقبل حكومة الوحدة الوطنية على المحك، على عكس ما كانت تهدف هذه الحكومة من وراء هذا اللقاء”.
ورأى الكبير في حديث لـ”النهار العربي” أن مبررات وزارة الخارجية الليبية “غير مقنعة على الإطلاق، فلا يمكن أن يتم لقاء بين وزيري خارجية بلدين من دون تفاهم واتفاق وترتيبات مسبقة. في مثل هذه اللقاءات تراعى كل التفاصيل سواء كانت ستتم بسرية أم يُعلن عن تفاصيلها، وبالتالي لا مجال لأن يكون اللقاء عرضياً”. وتساءل “هل تتصرف المنقوش بمفردها؟ لا اعتقد ذلك أبداً، وإلا لا يكون الدبيبة ممسكاً بتلابيب مهمته، ومن المؤكد أن هذه الخطوة جرت بتشجيع من الولايات المتحدة”.