سمير عطا الله كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
انقسمت ألمانيا أو بالأحرى قُسّمت إلى ألمانيتين؛ واحدة تحكمها واشنطن مع حلفائها الغربيين، وأخرى تحكمها موسكو بعقيدتها الشيوعية. وأصبح حاكم الدولتين رجلاً عسكرياً لا يعرف سوى إصدار الأوامر. ومضى كل شطر في طريقه، يحاول العودة إلى الحياة الطبيعية في جدول سابق له. وما لبثت ألمانيا الغربية أن انضمت، مثل اليابان، إلى ركب المستقبل الصناعي المذهل، وتخلف الشرق الألماني عن الغرب، لكنه ظل متقدماً في الحوض الشرقي، في الصناعة، وفي الاقتصاد، وفي التعليم وغيره من الحقوق.لم يتذرع الألمان بالتقسيم والانقسام كي يبرروا عدم التقدم، بعكس ما فعل العرب طوال هذا الزمان، محملين الافتقار إلى الوحدة مسؤولية الخمول والتشتت والتخلف الاقتصادي المستمر أبداً. ما السبب في هذه الحال؟ هل هو المناخ، هل هو البيئة، هل هي جينات موروثة؟ تحسُن العودة دائماً إلى سيد علماء الاجتماع، ابن خلدون، لكن هذا وحده لا يكفي. نحن شعوب تعيش على الذرائع، وتزدهر بالمبررات، وبدل أن نبحث عن الإنجاز مهما كانت العقبات، فإننا نبدأ دائماً بالبحث عن الأعذار خصوصاً منها المؤامرة، ونخرج من كل خسارة من دون إلغاء المسؤولية عن أحد.تبلغ قيمة المال الفاسد في العالم العربي أرقاماً تفُوق الخيال كثيراً. وما من أحد يعرف حجم المال المبذر. ولسنا الشعب الوحيد في هذه الآفة وهذا الإثم، قادات كثيرة أخرى تعاني من الفاسدين والمافيات الناهبة لأرزاق الشعوب. وفي بعض الدول، الفساد هو القاعدة والقانون والمعاملة العامة، غير أن الأسبقية لنا على الدوام، والزمن يضيع بين أيدينا حيث لا نترك لأولادنا شيئاً، إذا كنا ننتظر قيام الوحدة أو شيء منها، من أجل أن نحقق الكفاية للناس، فالمؤسف أن علينا الانتظار طويلاً جداً.لقد جردتنا التجربة الألمانية من كل عذر. اعتمدت أوروبا الغربية بعد الحرب الثانية، على المساعدات التي تضمنها «مشروع مارشال» الأميركي، ولم تنتظر دول أوروبية كثيرة تلك المساعدات كي تقوم من جديد، بل سارعت فوراً إلى إعادة البناء بكل وسيلة ممكنة. وعمد الجنرال ديغول فور وصوله إلى الحكم إلى تسديد ديون فرنسا للمشروع، كي لا يحمّل بلده مِنَّة أحد. ونهض ببلاده نهضة لا تقل أهمية عن نهضة ألمانيا الغربية واليابان. كانت الحرب العظمى تجربة مريعة في الاندثار والقيامة. أعاد الألمان بناء المباني والجسور والطرق، حجراً حجراً. طرق ليس فيها حفر ولا خنادق ولا حواجز ميليشياوية، وعندما عادت الوحدة إلى الدولتين عاد الألمان إلى إقامة الدولة الكبرى دون خطب أو أحلام هتلرية.