د.احمد مصطفى
لا تحظى الاحتجاجات الشعبية في الجزائر على ترشح الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة للرئاسة لفترة خامسة بالاهتمام الإعلامي الذي حظيت به احتجاجات تونس ومصر في 2011 لعدة أسباب. أولها وأهمها في تصوري هو أن نتيجة ما حدث في البلدين وسوريا وليبيا واليمن على مدى ثماني سنوات حتى الآن ليس بالنموذج الذي يريد أي شعب في المنطقة أو خارجها أن يتبعه. ففي تونس ومصر كانت نتيجة التحرك الجماهيري صعود تنظيم الإخوان قبل أن يسقط من السلطة وينكشف عليه التونسيون فيحجموا دوره في الحكم. أما في سوريا وليبيا فما زال الدم والدمار هو سيد المشهد، وأيضا لعبت التنظيمات الإسلامية والإرهابية الدور الرئيسي في ذلك الخراب المستمر حتى الآن ـ ذلك طبعا بالإضافة إلى التدخلات الخارجية التي تزيد الأوضاع سوءا في البلدين المدمرين.
لذلك، أتذكر حين خرجت بعض المظاهرات الفئوية لبعض العاملين في الدولة في العاصمة الجزائر تحمل شعارات تتعلق بمطالب لتلك الفئات في أعقاب ما جرى في مصر وتونس وغيرها أثير تساؤل حول مدى إمكانية اتساع رقعة تلك الاحتجاجات بين الجماهير لتستهدف تغيير النظام ككل. وكان ردود كثير من الجزائريين أنهم لا يريدون لبلدهم أن يدخل دوامة فوضى وفراغ حكم يجر الجزائر إلى ما لا يمكن التنبؤ بنتائجه. ورغم أن الشعب الجزائري يتميز بعنفوان رد الفعل، إلا أن تلك المظاهرات الفئوية لم تؤد إلى انتفاضة شعبية واسعة لذلك السبب الذي ذكره كثير من الجزائريين وقتها. كما أن العنف العرقي والطائفي في بعض مناطق الداخل الجزائري، جنوب العاصمة الجزائر، في العامين الأخيرين حوصرت وتم تجاوزها (أيا كان شكل السيطرة عليها) ولم تنشر شرارتها النار في السهل كله.
ثم إن الجزائر بالتحديد ذاقت نار صعود الإسلام السياسي في تسعينيات القرن الماضي، بعدما تدخل الجيش عام 1992 للحيلولة دون سيطرتهم على الحكم بعد انتخابات فازوا فيها نتيجة تصويت احتجاجي من الجماهير على اهتراء سلطة قيادات حركة التحرر الوطني التي خلصت الجزائر من الاحتلال الفرنسي بعد منتصف القرن الماضي. وشهدت الجزائر، دونا عن بلدان العالم العربي كله، عشر سنوات من الدم والتخريب على يد ميليشيات تتشح بإزار الإسلام جعلت من الصعب على الجزائريين قبول عودة هؤلاء إلى تسيد المشهد العام في بلادهم مرة أخرى. ويدرك الناس في الجزائر أن أي تغيير للنظام على طريقة احتجاجات ما سمي “الربيع العربي” قد تعيد تلك المأساة لبلدهم. ورغم أن تنظيم الإخوان لا يحظى بقوة كبيرة في الجزائر، إلا هناك قطاعا واسعا من الشعب الجزائري متعاطف مع كل من يرفع شعارات الدين سياسيا، وما زال للتيار الشعبوي من الإسلام السياسي نفوذ بين الجماهير.
يلاحظ أيضا أن الاحتجاجات الأخيرة لم ترفع شعارات راديكالية جدا من قبيل إسقاط النظام أو تغييره تماما، وإنما تركزت على الاعتراض على تولي الرئيس بوتفليقة الرئاسة لفترة خامسة. فالرجل مريض ومقعد منذ فترة، ويعتقد كثيرون أن الحل والربط في البلد هو بيد مجموعة ممن حوله تحيط بهم شبهات الفساد واستغلال السلطة باسم الرئيس. ورغم كل ذلك، يدرك الناس أن ترشح الرئيس بوتفليقة سيعني انتخابه، وتلك شبه حقيقة مؤكدة إذ لا توجد قوة معارضة منظمة قادرة على تحدي سلطة الحزب الرئيسي في الجزائر ـ جبهة التحرير الوطني ـ التي يمثلها الرئيس بوتفليقة. ويحسب للرئيس بوتفليقة أنه الرجل الذي تمكن من إنهاء العنف الداخلي في الجزائر وإيقاف حمام الدم الذي استمر السنوات العشر الأخيرة من القرن الماضي وحتى بداية القرن الحالي. وكان من الذكاء السياسي بحيث اتبع ذلك بتفكيك قبضة أجهزة الأمن وقيادات الجيش القوية، التي اكتسبت نفوذا هائلا خلال عقد مواجهتها للمتطرفين والإرهابيين.
أدى ذلك بالطبع إلى “تفريغ” السلطة من قيادات قوية، خصوصا في المؤسسة العسكرية وأجهزة الأمن والمخابرات، ما أفسح المجال أمام مجموعة من المنتفعين الانتهازيين الذين يحتاجون “ظل الرئيس” لإدارة شؤون الجزائر بما يحقق مصالحهم. وجاءت فترة انهيار أسعار الطاقة، المصدر الرئيسي للدخل القومي الجزائري، منذ النصف الثاني من 2014 متزامنة مع تطورات مرض الرئيس بوتفليقة مما ضاعف من سخط الشعب وعدم قدرته على تحمل تدهور أحوال المعيشة، بينما هو يرى “رجال الرئيس” على فسادهم. ولا يمكن هنا إغفال أن تلك الخلطة هي المناخ الأنسب لتيار الإسلام السياسي الذي يدعي الاستقامة ومكافحة الفساد والنفوذ الانتهازي (وأقول “يدعي” لأن ذلك التيار هو أكثر انتهازية وفسادا من غيره وإنما يغلف ذلك بغلالة الدين لاستغلال تعاطف الجماهير المتدينة بطبعها).
تكمن المشكلة الآن في موقف السلطة، أو بالتحديد “رجال الرئيس”، من تلك الاحتجاجات والقرار بشأن ترشح الرئيس بوتفليقة أو تقديم النظام لشخصية أخرى تحافظ على البلد من الدخول في دوامة فوضى قد تصبح دامية باستغلال تيار الإسلام السياسي لها. وحتى الآن لا يبدو أن هؤلاء يستوعبون تلك المخاطر، ويراهنون على أن “الجزائر غير” إلى أجل غير مسمى. نعم وضع الجزائر يختلف، لكن ذلك الشعب العنيد قد لا يقبل الرهان على استيعابه لمخاطر الفوضى حال إسقاط النظام إذا استمر صلف السلطة وعدم قبولها بالحلول الوسط.