بقلم : عبد الباري عطوان
الابتسامة العريضة جدًّا التي ارتسمت على وَجْه الرئيس السوري بشار الأسد، أثناءَ لِقائِه الرئيس الرّوسي فلاديمير بوتين في مُنتجع سوتشي، جنوب غرب روسيا قبل ثلاثة أيّام، وجَرى كَشْف النّقاب عنها اليوم، تُلخّص بدِقّةٍ حاضرَ سورية ومُستقبلها، وتُؤكّد أن الرئيس السوري باقٍ في السّلطة، وربّما في وَضعٍ أكثر قوّةً وشرعيّةً.
اختيار انعقاد هذهِ القمّة السوريّة الروسيّة بعد استيلاء الجيش العربي السوري على مدينة البوكمال، آخر موقع لقوّات “الدولة الإسلاميّة”، أو “داعش”، يَنطوي على الكَثير من المَعاني، ويَعْكِس مُناسبة “احتفاليّة” بنهايةِ مَرحلةٍ، وإعادة الإعمار.
فلاديمير بوتين، الرّجل الداهية، الذي قادَ سفينة الأزمة السوريّة إلى هذهِ النّهاية الحاسمة، بالنّسبة إليه وحَليفه الرئيس الأسد، أثبت قُدرات قيادته، ورؤية استراتيجيّة، حَوّلت خُصومه، خاصّةً في المُعسكر الأمريكي، إلى “هواةٍ”.
الرئيس بوتين أدار الأزمة بكفاءةٍ عالية، مُتّبعًا سياسة النّفس الطويل، ونَسَجَ التّحالفات الإقليميّة والدوليّة ببراعةٍ فائقةٍ، ولم يَنحنِ مُطلقًا أمام الكِبار، ولم يَهتم أبدًا بألاعيب الصّغار، ولم يعر أيَّ اهتمامٍ لنَزقهم، وتصريحاتهم الجَوفاء، وما أكثر هؤلاء الصّغار في الأزمة السوريّة.
لم يَكُن من قَبيل الصّدفة، أن تَنعقد قمّة ثانية في سوتشي تَضُم قادةِ المِحور الثلاثي، الذي انتصر في هذهِ الأزمة، أي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والإيراني حسن روحاني، إلى جانب الرئيس الروسي، فانعقاد هذهِ القمّة غدًا الأربعاء لن يكون احتفاليًّا فقط، وإنّما لإعادة ترتيب مِنطقة الشرق الأوسط بُرمّتها، وِفْق مَنظورهم، وبعيدًا عن أيِّ دورٍ أمريكي أوروبي، ولأول مرّة مُنذ اتفاقاتِ سايكس بيكو قبل مِئة عام.
المُعارضة السوريّة التي اعتقدت في يومٍ ما أنّها كانت على بُعد بِضعة أقدام من الوصول إلى قصر المهاجرين في دمشق، تجتمع ويا للمُفارقة، في الرياض، يوم غَدٍ الأربعاء أيضًا، بحُضور منصّات للقاهرة وموسكو التي كانت تَعترض عليها وتَعتبرها عميلةً للنّظام، إلى جانب الهيئة العُليا للمُفاوضات، ولكن بدون رئيسها رياض حجاب، ولا العَديد من قادَتِها، لأن الأول لم تُوجّه له الدّعوة أساسًا للحُضور، ولأن آخرين كان شرط حُضورهم مَرهونٌ بالمُوافقة على العَودة إلى سورية تحت مِظلّة الرئيس الأسد.
لا نُريد الخَوض في الكثير من التّفاصيل، والتوقّف عند بعض المُماحكات والمَواقف، ليس لأننا لم نَفعل ذلك مُنذ بداية الأزمة، وإنّما لأنّنا نُدرك جيّدًا أن هُناك خريطةَ طريقٍ واحدةٍ مُعتمدةٍ للأزمة السوريّة، هي تلك التي وَضعها الرئيس بوتين وفريقه، بمُوافقة الثلاثي، السوري الإيراني التركي، أمّا الآخرون فأدوارهم ثانويّة جدًّا، وجَرى تَركهم يَقولون ما شاءوا.
“سورية الجديدة” تَنهض من وَسط دمار الحَرب، لتَستعيد دورها الإقليمي القِيادي الذي أراد البعض إلغائه، وتهميشه، لأنها وَقفت بصلابةٍ ورجولةٍ في مُواجهة المَشروع الإسرائيلي الأمريكي، وانتصرت عليه بعد تضحياتٍ جسيمةٍ، سورية لم تَختر الحرب، ولكنّها فُرضت عليها من خِلال مُؤامرةٍ حيكت خُيوطها في غُرفٍ سوداء، بإدارةٍ أمريكيّةٍ إسرائيليّةٍ، تمامًا مِثلما حيكت مُؤامراتٍ مُماثلةٍ للعراق وليبيا واليمن.
أرادوا تغييب المَراكز العربيّة، والعراق وسورية تحديدًا، حتى لا تقوم لهذهِ الأمّة قائمة، وتتحوّل إلى “محميّاتٍ” إسرائيليّة، تُدار شُؤونها من تل أبيب، ولكن إرادة شُعوب هذهِ الدّول وقِياداتها الحيّة استطاعت أن تقلب المُعادلة فوق رؤوس المُتآمرين، وتَقطع خَطواتٍ مُتسارعةٍ على طَريق التّعافي، والعَودة إلى مَركز القيادة في إطارِ تحالفاتٍ، وليس مُغامرات، تُوجّه بُوصَلتها نَحو فِلسطين، والمَشروع الصهيوني، وهُنا يَكمنُ الفارق الكبير.
سنَترك التّحليلات للآخرين، ونَكتفي بالقَول أن الإنجاز الكبير الذي حَقّقه الرئيس بوتين حتى الآن، وأدّى إلى إيصال سورية والعراق، وربّما المِنطقة إلى بَر الأمان بهويّةٍ جديدةٍ غير مُلوّثة بأيِّ أدرانٍ أمريكيّةٍ، هو استقطاب تركيا، ورئيسها أردوغان إلى المِحور الرّوسي، وإبعادها عن أوروبا، وأمريكا، وحِلف الناتو، والتأكيد على أن مصالحها مع إيران وسورية وروسيا والعراق، والقاهرة لاحقًا، وليس في واشنطن ولندن وباريس وبروكسل.
الرئيس بوتين أقنع نَظيره التركي، بعد أن تَحمّل مِنه الكثير، بأن رَحيل الأسد لن يتم أولاً، وسيُعطي نتائجَ عكسيّةً على تركيا ووحدتها الجُغرافيّة والبشريّة ثانيًا، وأن احتفاظ تركيا بدَورٍ فاعلٍ في سياسات المِنطقة، المُستقبليّة أكثر أهميّة وفاعليّة من رحيل النّظام في دِمشق، وتَحوّل سورية إلى قاعدةٍ للفَوضى والتّطرف ثالثًا، والوَرقة الكُرديّة هي الوَرقة الأخطر على تركيا في المَرحلة المُقبلةِ رابعًا.
قمّة سوتشي الثلاثيّة، الروسيّة التركيّة الإيرانيّة التي تبدأ أعمالها غدًا الأربعاء بقيادة بوتين قد تكون تِكرارًا لنظيرتها التي انعقدت في يالطا بعد الحَرب العالميّة الثانية، ورَسمت خريطة المِنطقة من جديد، صحيح أن الرئيس الأسد لن يَكون مُشاركًا فيها، ولكن مِقعده سيكون هُناك، وسَيكون حاضرًا بقوّةٍ في كُل المُناقشات والطّروحات لأنّه شريكٌ أساسي.
قمّة سوتشي ثلاثيّة اليوم، ومن المُؤكّد أنّها ستكون رباعيّة في المرّة المُقبلة، ونَختم بالقَول أنّه من حَق الرئيس الأسد أن يَبتسم ويَضحك بعد سَبع سنوات من العُبوس، فمَن كان يَتصوّر ولو للحظة أنّه سيَبقى في قَصره، أو حتى على قيد الحياة، عندما يَنظر إلى حَجم وقوّة التّحالف الذي نَسجته أمريكا للإطاحةِ بِه؟