محمد المختار الفال
علّقت الولايات المتحدة المعونة المقدمة إلى باكستان، لأنها فشلت في التعامل مع الشبكات الإرهابية التي تعمل على أراضيها.. وقالت باكستان: «إن هجمات المسؤولين الأميركيين ضدها غير مفهومة، وأنهم تجاهلوا عقوداً من تضحيات الأمة الباكستانية»! (بي بي سي 4 كانون الثاني/ يناير 2018).
لماذا التصعيد؟ وما هي بواعثه؟ لقد أحدث الرئيس ترامب تعديلات ملحوظة في سياسة بلاده الخارجية، وأعاد فتح ملفات أغلقها سلفه، وصعّد اللهجة تجاه دول تعد في قائمة «العصاة»، وأعاد الاطمئنان إلى أخرى كادت تفقد الثقة بعلاقاتها التاريخية مع الولايات المتحدة، ومن التحولات التي ظهرت على السطح؛ خريطة التحالفات في الصراع المعلن والخفي مع روسيا الصاعدة والصين المتمددة في منطقة جنوب آسيا، التي باتت مسرحاً لترتيب الملفات، وما يتصل بالحضور الأميركي في أفغانستان، الذي تحول إلى «استنزاف» بعد الفشل في القضاء على الرافضين له، وإيجاد نظام في كابل قادر على جمع كلمة الأفغان من حوله بالقدر الذي يضع جدولاً زمنياً «لفطامه» عن الثدي الخارجي، والخروج من كابل إلى المناطق الجنوبية، حيث الأكثرية البشتونية التي تتمركز فيها طالبان وامتداداتها العسكرية والقبلية المتصلة بباكستان.
في آب (أغسطس) الماضي أعلنت واشنطن أن لديها استراتيجية جديدة في جنوب آسيا، من أبرز ملامحها المتعلقة بموضوعنا، الضغط على باكستان المتهمة بدعم طالبان، وزيادة القوات العسكرية بهدف حسم الحرب الدائرة في افغانستان منذ ما بعد الـ11من أيلول (سبتمبر) 2001، والجزء المتعلق بباكستان، من هذه الاستراتيجية، بدأت بوادر تطبيقاته بتأزيم العلاقة وتصاعد نبرة التصريحات المتبادلة، وإعلان إيقاف الدعم، الذي يشكل عنصراً مادياً مهماً، إلى جانب دلالاته المعنوية.
والسؤال المحوري في هذه المسألة هو: لماذا صعدت واشنطن موقفها من باكستان؟ يمكن للمراقب المتابع الإشارة إلى عوامل، منها: الشكوك القديمة المتجددة تجاه «تيار الأسلمة» في الجيش الباكستاني، الذي وجد ونما في ظل حكم الجنرال ضياء الحق، في تلك الظروف الملتبسة بمواجهة الاتحاد السوفياتي، وترتيب «الجهاد» برعاية وكالات الاستخبارات الأميركية وحلفائها، وهذا التيار له وجود مؤثر في الرتب العسكرية العليا والمتوسطة، واتسعت مساحته أفقياً بين الوحدات على امتداد تشكيلات المؤسسة العسكرية، إلى جانب الاستخبارات العسكرية، وكان موضع «شبهة» في نظر قطاع مؤثر في الأجهزة الأمنية الأميركية، بل وصلت هذه النظرة إلى أنه ضالع، بدرجة أو أخرى، في العمل ضد الوجود الأميركي. وتقديرات أميركية ترى أن إسلام أباد تتباعد عنها في اتجاه الصين، وتحاول إزالة ما يعوق تحسين علاقاتها مع روسيا، بعد أن شعرت منذ فترة بتناقص «قيمتها» لدى واشنطن، مقارنة بتنامي مصالحها مع الهند، وهو ما بات واضحاً للجميع، وبخاصة خلال إدارة الرئيس أوباما، التي تشكل في ظلالها تقارب هندي – إيراني يهدف إلى «التضييق» على باكستان من دون استفزازها، من الجانب الإيراني على الأقل، ومما يرجح صحة التقارب الباكستاني – الصيني – الروسي رفضهما اتهام إسلام أباد بدعم الإرهاب.
وشكوك واشنطن في حليفها باكستان زاد في حساسيته وتأثيره في المنطقة توجه الولايات المتحدة إلى تشكيل تحالف جديد يضم اليابان واستراليا والهند (بدلاً من باكستان)، وهذه الخطوة ترى فيها باكستان ترجمة عملية لتعارض المصالح بين الحليفين القديمين، وهي خطوة لن تقف نتائجها عند حدود التصريحات المتشنجة بين الطرفين.
وفي هذا السياق يرد تساؤل عن أهمية باكستان «الجيوسياسية» في منطقة جنوب آسيا؟ لن نذهب بعيداً للتذكير بالصراع الدائر في المنطقة بين الدول الإقليمية والقوى العظمى إبان الحرب الباردة، وسنكتفي بالإشارة إلى أن الولايات المتحدة كانت دائماً تبحث عن «حائط صد» بين مصالحها في المنطقة والمصالح الصينية، وكانت باكستان هي الحليف الطبيعي لهذه المهمة، بعد تشكيل ما عرف بـ«حلف بغداد»، الذي ضم باكستان وإيران وتركيا والعراق، وأدى مهمته في مرحلة الصراع مع الاتحاد السوفياتي، لكن بعد انهيار «كعبة» المعسكر الشرقي ليصبح للعالم قطب واحد، وتضاؤل الأخطار المهددة لمصالح هذا القطب، لتبدو طلائع قوى جديدة تعتمد سلاح الاقتصاد والأسواق والتقنية، بدأت واشنطن تعيد النظر في موقفها ونظرتها إلى شبه القارة الهندية، وانتهت إلى أن الهند الصاعدة هي الحصان الرابح، وأن باكستان، لظروفها وواقعها المعقد، لا تستطيع الاستغناء عن العون الأميركي، ويمكن ترضيتها أو «ترويضها» بالقليل إن «غضبت» من توجه الحليف إلى نيودلهي، وانتهت واشنطن إلى أن «حائط الصد» المستقبلي هو الهند، بما تمثله من قوة بشرية وتقدم تقني وجيش يحتل المرتبة الرابعة، على مستوى العالم، فهذا «الحائط» هو الذي يشكل المعادل الموضوعي للصين في المنطقة، بكل أطماعها وطموحاتها وامتداداتها وتأثيرها، الذي يصل إلى كوريا الشمالية «الولد العاصي» المشاغب الدولي، الذي يزعج ويعرض هيبة الكبار إلى الإحراج أمام الآخرين، ولكن على رغم هذا التحول، الذي أصبحت فيه الهند الحليف المفضل للولايات المتحدة لمواجهة تنازع المصالح في هذه المنطقة من العالم، فإن لباكستان موقعاً «يفرضها» طالما أن واشنطن متورطة في المستنقع الأفغاني، فللجغرافيا والديموغرافيا أحكامهما وسطوتهما على القرار السياسي والعسكري، وواشنطن ما تزال تجرجر أقدامها في الوحل وتلاحق طالبان وما يرتبط بها من منظمات وحركات التطرف والإرهاب، والأرض الباكستانية والنسيج القبلي المتداخل بينها وبين افغانستان له منطقه وقوته الفارضة نفسها ولا يمكن تحييدها عن حسابات المعركة، بل وتزداد قيمتها وفعاليتها مع تصاعد الخلافات مع إيران، التي لا تريد أن تخسر باكستان، على رغم التناقض المعروف بينهما، وبالتالي فإن باكستان ستظل مهمة لمن يريد التعامل مع الواقع الأفغاني.
لكن هل ستقبل إسلام أباد بأن تكون «بدل فاقد» لتحقيق مصالح واشنطن وتضيّع هي مصالحها مع الصين حين واتتها الفرصة؟
النظرة الموضوعية وتراكم المكتسبات من العلاقة مع الولايات المتحدة ترجح عدم إقدام إسلام أباد على ما يفقدها هذه العلاقة ومنافعها، لكن هذا يتطلب تفهماً حقيقياً من واشنطن وعدم الإيغال في الاعتماد على حاجة الشريك ودفعه إلى «الحائط».
إن سياسة ترامب وتحميل باكستان مسؤولية فشل، أو لنقل عدم نجاعة، العمليات العسكرية في أفغانستان ومحاربة الإرهاب، سيضع باكستان في موقف حرج داخلياً وخارجياً، وهو ما قد يدفع تيار الاعتدال في نظام الحكم إلى اتخاذ خطوات حاسمة في اتجاه الصين المرحبة والواعدة بالحماية والمساعدة، وموقف ترامب من باكستان يفتح الطريق أمام الصين لزيادة مكاسبها وإحياء طريق وصولها إلى المياه الدافئة، (الحلم القديم المتجدد).
وإذا كانت واشنطن قدرت حساب المكسب والخسارة من التحالف مع الهند، على حساب باكستان، ولديها من الوسائل والإمكانات ما يعوضها عن هذه الخطوة؛ فهل قدر حلفاء باكستان الآخرون حجم خسائرهم من دخولها في فريق الصين، الذي يتبادل المصالح مع روسيا وإيران في هذا الوقت، الذي يعاد فيه رسم الخطوط وتوزيع الوكلاء؟