لماذا قد لا يعطّل الشّتاء عمليّات أوكرانيا العسكريّة؟

1

جورج عيسى

الميدان يصبح أكثر صعوبة على الدبابات خلال موسم الوحول (أ ب)

“بزدوريجيا”. هي كلمة أوكرانيّة تعني “بلا طرق”؛ تقابلها في الروسيّة كلمة “راسبوتيتا” وتحمل معنى مشابهاً. تعبّر الكلمتان عن موسم الوحول الذي يحطّ رحاله في البلاد بدءاً من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) تقريباً. من هنا، يكاد جميع المراقبين يتّفقون على أنّ نافذة أوكرانيا لتحقيق اختراق وازن على الجبهة تتقلّص. بعد تحوّل الطرق، وخصوصاً السهول، إلى مستنقعات طينيّة، ستتفرّغ القوّات الأوكرانيّة لتحصين مواقعها التي سيطرت عليها خلال الهجوم المضادّ، لكن هذا أيضاً ما ستتفرّغ له القوّات الروسيّة. بالتالي، قد تكون المرحلة التالية من الهجوم الأوكرانيّ أكثر تعقيداً. لكن يمكن أن يكون للجنرال “شتاء” رأي آخر.

توقّعات الفصل المقبل

لن يكون مستغرباً تأخّر الشتاء لأسابيع عدّة قبل أن يبدأ تأثيره التراكميّ على المواصلات في نهاية تشرين الثاني أو أوائل كانون الأوّل. على سبيل المثال، لم تتحقّق التنبّؤات بخضوع أوروبا لمعاناة الشتاء السنة الماضية، لأنّ الموسم تأخّر جداً، حتى أنّ بعض منتجعات التزلّج أقفلت أبوابها أمام محبّي الرياضة الشتويّة. وبدأت توقّعات علميّة تشير إلى أنّ هذه السنة قد تكون الأكثر دفئاً منذ بدء السجلّات. يعزّز هذا الأمر بروز ظاهرة “إل نينيو” في المحيط الهادئ والتي تساهم في زيادة درجات الحرارة.

لكن يقتضي عدم الاستعجال في استخلاص ما سيكون عليه الشتاء. فالاحترار لا يعني بالضرورة أنّ الأمطار ستكون أقلّ غزارة، بل هو يرجّح فقط أن تكون المتساقطات على شاكلة أمطار جليديّة أو ثلوج قليلة بالمقارنة مع الأعوام الماضية. يمكن أن يعني ذلك موسماً طينياً أطول عوضاً عن أن يكون موسم وُحول يليه موسم تربة صقيعيّة تخدم أكثر تقدّم الآليّات العسكريّة قبل أن يفسح المجال أمام عودة المستنقعات مع بداية الربيع.

على سبيل المثال، استغلّت روسيا شهري كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) 2023 لتشنّ هجومها المضادّ، لكن من دون أن تنجح إلى حدّ بعيد. ما قد يؤكّد عدم التماثل الضروريّ بين كمّية الهطولات ودرجات الحرارة في الشتاء هو توقّعات ما يعدّ أفضل نموذج – نسبياً – للتنبّؤ بطقس موسميّ، أي النموذج الأوروبّي. بحسب توقّعاته العامّة، ستكون حرارة الشتاء في أوكرانيا أعلى من معدّلاتها بنحو نصف إلى درجة مئويّة كاملة، لكن مع احتماليّة أمطار أعلى بنسبة 50 في المئة تقريباً. في جميع الأحوال، تبقى القاعدة العامّة أنّ الشتاء سيكون معرقلاً للهجوم الأوكرانيّ؛ السؤال هو عن موعد بداية هذه العرقلة وحجمها… وكيفيّة التكيّف معها.

ما يمكن قياسه أفضل

العامل الثاني الأكثر قدرة على الرصد هو الإمكانات الأوكرانيّة المستجدّة في أحد المجالات الحيويّة: الطائرات بلا طيّار. منذ أواسط الربيع الماضي، صعّدت أوكرانيا هجماتها بهذه المسيّرات ضدّ مناطق في الداخل الروسيّ، بما فيها الكرملين. وصل التصعيد الأوكرانيّ في هذا النوع من الهجمات إلى حدّ اضطرار السلطات الروسيّة مرّات عدّة إلى إغلاق مطارات مدنيّة في العاصمة موسكو موقّتاً. في الشتاء الماضي، كان التهديد بضرب البنى التحتيّة للطاقة أحاديّ الجانب. قد يتغيّر الوضع في الموسم المقبل مع احتمال قيام أوكرانيا باستهداف بُنى كهذه داخل روسيا. إذا كانت كييف تحاول نقل آثار الحرب النفسيّة إلى الشعب الروسيّ فستجد محاولاتها فاعليّة أكبر خلال فصل الشتاء. وخيارات روسيا قد لا تكون كثيرة.

هي تستطيع منطقياً زيادة دفاعاتها حول محطّات الطاقة، لكنّها لن تصل على الأرجح إلى حماية كاملة لتلك المحطّات. أمّا ضرب الطاقة الكهربائيّة في أوكرانيا، فعلاوة على أنّه لم يؤدِّ إلى تآكل إرادة القتال لدى الأوكرانيّين خلال الشتاء الماضي، يمكن أن يؤدّي إلى تركيز كييف هجماتها أكثر على شبكات توليد ونقل الطاقة في روسيا. ربّما يتوصّل الطرفان إلى اتّفاق ضمنيّ بعدم استهداف البنى التحتيّة الأساسيّة التي تخدم المدنيّين، لكنّ ذلك احتمال صعب.

قد تجد أوكرانيا أنّ موقفها بات أفضل مع المنظومات الدفاعيّة الغربيّة التي تتلقّاها ومع تطوير مسيّراتها، بما فيها تلك القائمة على الذكاء الاصطناعيّ، الأمر الذي يحفّزها على ضرب العمق الروسيّ ضمن حربها الواسعة. وبحسب أحد المسؤولين الأوكرانيّين، باتت كييف قادرة على إصلاح الأضرار الكهربائيّة بسرعة أكبر بست إلى سبع مرات من سرعة إصلاحها قبل الغزو.

خيارات أوكرانيا

حتى لو تأخّر الشتاء وجاء شهرا كانون الثاني وشباط باردين بما يكفي لتجميد التربة، فلن تتمكّن أوكرانيا من تجنّب العراقيل التقليديّة. إذا كان الجليد على سبيل المثال يسهّل سير المدرّعات والآليّات، فهو أيضاً يكشف الجنود بشكل أكبر أكان بصرياً أو من خلال علامات الحرارة. لا بدّ من توقّف أوكرانيّ قسريّ في الشتاء أقلّه لفترات متقطّعة. لكنّه على الأرجح لن يكون توقّفاً في جميع العمليّات القتاليّة.

ربّما تكون شحنات صواريخ “أتاكمس” الأميركيّة قد وصلت إلى كييف في ذلك الحين كافية كي تبدأ بعرقلة روسيا في عمليّة بناء المزيد من التحصينات كما يتوقّع البعض. وإذا كانت لا تزال تتمتّع بمخزون من صواريخ كروز (سكالب/ستورم شادو)، فربّما تواصل أوكرانيا قصف أهداف روسيّة حرجة كما فعلت الأسبوع الماضي حين استهدفت غوّاصة “روستوف أون دون” وسفينة الإنزال البرمائيّة “مينسك” في أحد موانئ القرم.

ستكون أوكرانيا بحاجة للتعويض عن توقّف هجماتها المضادّة بعمليّات نوعيّة لطمأنة الغربيّين بشأن قدرتها على مواصلة إنهاك روسيا، وبأنّ دعمهم لا يزال يؤتي ثماره. ببساطة، تدرك أوكرانيا أنّ الشتاء المقبل سيتزامن مع انطلاق الحملات الانتخابيّة الأميركيّة رسمياً. ربّما كان بإمكان بايدن، وحتى الجمهوريّين الأكثر تشدّداً تجاه روسيا (كريستي، هالي، بنس…)، أن يتمتّعوا بموقف أفضل لو وصل الأوكرانيّون إلى البحر الأسود بحلول ذلك الوقت.

لكن على الأقلّ، بدأت كييف تخترق خطّ سوروفيكين (بالقرب من روبوتين) وتتقدّم في خطّة تطويق باخموت (السيطرة على أندريفكا وكليشيفكا). وستظلّ أوكرانيا بحاجة إلى ملء الفضاء الإعلاميّ بعمليّات نوعيّة في الأشهر الباردة المقبلة قبل إعادة إطلاق المرحلة الثانية من الهجوم. بهذا المعنى، سيكون شتاء 2023-2024 مختلفاً على الأرجح عن الشتاء الماضي.

 المصدر: “النهار العربي”

التعليقات معطلة.