لماذا لن تجتاح إسرائيل جنوب لبنان كما فعلت في غزّة؟

1

 الصلاة على شبان قتلوا في قصف اسرائيلي على بلدة الناقورة الحدودية (أ ف ب)

يكاد السؤال عن أفق الحرب بين الجيش الإسرائيلي و”حزب الله” يتصدّر  المشهدية في لبنان، فهل ستتسع الحرب بين الطرفين وتنفّذ إسرائيل عملية برّية وجوية واسعة النطاق، أم أنها ستُبقي على شكل المواجهات القائم مع تغيير في وتيرة الهجمات؟
قبل أيام، لفت الانتباه تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت حينما قال: “سنوسّع الحملة في الشمال ونزيد معدلات الهجمات ضد “حزب الله”، وسنصل إلى أي مكان يعمل فيه الحزب في بيروت ودمشق وأي مكان آخر”، فهل كان إشارة إلى أن إسرائيل ستشن حرباً أوسع ضد الحزب؟
ما قصده غالانت على الأرجح هو زيادة الاستهدافات النوعية ضد “حزب الله”، أي اغتيال القادة العسكريين وقصف المواقع الاستراتيجية والبنى التحتية ومخازن السلاح، وهو ما باتت تركّز إسرائيل عليه منذ فترة، مع اغتيال قادة بينهم وسام الطويل القيادي في “قوّة الرضوان” وعلي نعيم نائب قائد الوحدة الصاروخية، وتنفيذ عمليات ضد الحزب في الجنوب، وفي العمق اللبناني، في الضاحية وبعلبك والبقاع الغربي، وحتى في سوريا مع قصف مخازن أسلحة في حلب.
تُمسك إسرائيل بزمام الميدان وتضبط إيقاع الاشتباك وفق مصالحها، فيما تتواتر معلومات عن رسائل يُرسلها “حزب الله” سياسياً وميدانياً إلى إسرائيل مفادها عدم التصعيد والحفاظ على قواعد اشتباك معيّنة بعيدة عن العمق اللبناني واغتيال القيادات، لأن “حزب الله” بات مأزوماً ويتكبّد خسائر بشرية ومادية كبيرة من دون قدرة على الرد المتكافئ. وقد يكون عدم تصعيد “حزب الله” في إطار ردّه على العمليات الإسرائيلية النوعية، وضرب مواقع تقليدية يقصفها يومياً روتينياً إحدى هذه الرسائل الميدانية التي تُشير إلى أن الحزب لا يُريد التصعيد.
وتؤكّد لغة الأرقام هذا الواقع، ففيما دفع الجنوب أكثر من 250 قتيلاً، غالبيتهم عناصر لـ”حزب الله”، وبينهم مدنيون ومسعفون، لم تدفع إسرائيل أكثر من 25 قتيلاً بين جنود ومدنيين، وفق مصادر مقرّبة من الحزب، فيما يُقدّر الإعلام الإسرائيلي العدد بـ17 قتيلاً، من دون التطرّق إلى الخسائر المادية على المقلب اللبناني، ما يُشير إلى أن ميزان نتائج الضربات والأهداف غير متكافئ.
مرد فارق الأرقام هو أن إسرائيل تستهدف عناصر “حزب الله” والمدنيين في لبنان في مختلف المناطق، فيما هجمات الحزب تقتصر على مواقع إسرائيلية مُحددة مفترض أنها أُخليت لأنها تُستهدف كل يوم، ولأن سكّان المستوطنات الحدودية قد تم إجلاؤهم إجلاءً شبه كامل، فيما الحزب لا يستهدف العمق الإسرائيلي إلّا نادراً. وتواترت معلومات في هذا السياق تُفيد بأن التشويش الإسرائيلي على تقنية الـGPS أفقد صواريخ “حزب الله” الموجّهة ومسيّراته فعاليتها إلى حدٍ ما.
إلّا أن الاعتقاد السائد يقول إن إسرائيل لن تفتح الجبهة على مصراعيها ضد “حزب الله”، وستُبقي على شكلها الحالي مع رفع وتيرة الاستهدافات النوعية، أي الاغتيالات وضرب المواقع المهمة للحزب وبنيته التحتية، حتى تصل إلى هدفها الذي يكمن بإبعاد “حزب الله” عن حدودها وإنشاء منطقة عازلة تُسيطر عليها قوات اليونيفيل والجيش اللبناني، لتفادي سيناريو 7 تشرين الأول (أكتوبر) آخر في شمالها.
ولمعرفة الأسباب التي تُبعد سيناريو الحرب الشاملة عن الجنوب اللبناني، وجب التمعّن في الأسباب التي تدفع أساساً لشن عمليات اجتياح بري واسعة ضد أهداف معيّنة، ويُمكن اتخاذ الحرب في قطاع غزّة مثالاً على ذلك.
في حالة غزّة، اجتاحت إسرائيل برياً لتحقيق أهداف معلنة وغير مُعلنة، على رأسها تحرير رهائنها، تدمير قدرات “حماس”، إرساء واقع أمني جديد في القطاع لا تكون “حماس” شريكة به، وقد يكون ثمّة سبب بعيد الأمد، وهو تغيير ديموغرافية القطاع عبر قتل الفلسطينيين وتهجيرهم، وتطبيق خطط استيطان مشابهة لتلك الحاصلة في الضفة الغربية تدريجياً بعد إرساء نظام أمني جديد يخضع لسيطرتها بشكل أو بآخر.
هذه الأهداف بمعظمها ليست موجودة في جبهة الشمال ضد “حزب الله”، فلا رهائن لإسرائيل لدى الحزب لتحريرهم، ولا مشاريع لاحتلال لبنان أو الاستيطان في جنوبه، ولا أهداف لتدمير قدرات “حزب الله” تماماً لجملة من الأسباب، أبرزها قوّة الحزب التي تُقدّر بأضعاف قدرات “حماس” والتي من شأنها إلحاق أضرار بالجيش الإسرائيلي رغم تفوّق الأخير عسكرياً، واحتمالية تدخّل إيران ووكلائها تدخلاً أكثر فعالية وتوسيع نطاق الحرب، انطلاقاً من كون “حزب الله” ورقة طهران الأقوى في الإقليم، وليست بوارد خسارتها.
يبقى الهدف الأخير، وهو تغيير المعادلة الأمنية في الجنوب اللبناني، أي إضعاف قدرات “حزب الله” جنوباً وإبعاده تماماً عن المناطق الحدودية، أو بمعنى آخر وأوضح إبعاد إيران عن حدودها تفادياً لتكرار سيناريو 7 تشرين الأول، وهذا الهدف يتحقق تدريجياً من خلال العمليات النوعية التي تقوم بها إسرائيل، ونتيجتها وفق ما تُشير التقارير الصحافية إلى انسحاب جزء من “قوات الرضوان” الخاصة التابعة للحزب عن الحدود، وتراجع عدد عناصره في هذه المناطق.
لا يستدعي هذا الهدف عملية عسكرية واسعة يُمكن أن تتكبّد فيها إسرائيل خسائر كبيرة، وتضع المنطقة وساحاتها من البحر الأحمر مروراً بالعراق وسوريا وصولاً إلى لبنان على حافة حرب واسعة بين إيران والولايات المتحدة، وإن كانت الأفضلية إسرائيلية في الميدان ضد “حزب الله”، لأن الأثمان ستكون باهظة، فيما هي قادرة على إرساء الواقع الأمني الجديد الذي تُريده من خلال العمليات الدقيقة والمحدّدةالتي تقتل قياديي الحزب وتدمّر بنيته التحتية.
ثم إن إسرائيل لا تتمتع بغطاء دولي لتوسيع نطاق الحرب واجتياح لبنان، والجيش الإسرائيلي لم ينفّذ عملية واسعة في رفح بسبب غياب هذا الدعم، لا بل إن المجتمع الدولي رافض لهذه العملية لجملة من الأسباب، وبالتالي فإن لا ضوء أخضر دولياً لإسرائيل لتنفيذ عملية واسعة في لبنان، والمساعي الدبلوماسية تتكثّف لإبعاد سيناريو غزّة عن جنوب لبنان.
في المحصّلة، فإن المشهدية تشي بأن حرب استنزاف طويلة الأمد ستُسيطر على جنوب لبنان، ولن تنتهي قبل انتهاء الحرب في غزّة، لا بل قد تطول أكثر لأن إسرائيل باتت تفصل بين المواجهتين، وتقول إن الهدنة في غزّة إذا تم التوصّل إليها قد لا تنسحب على لبنان، لكن لا وقائع تُشير إلى أن الحرب الشاملة تلوح في الأفق، ولا تغييرات دراماتيكية متوقعة، بانتظار ما سيفرزه الميدان السياسي والميدان العسكري.

التعليقات معطلة.