أثارت وفاة المعارض الروسيّ ألكسي نافالني استنكار قادة العالم الغربيّ باعتبارها نتيجة أمر بالاغتيال صدر عن الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين، وهي اتّهامات وصفها الكرملين بـ”غير المقبولة على الإطلاق”. في أوكرانيا، لم تشفع كثيراً معارضة نافالني لبوتين كي تكسبه مشاعر إيجابيّة لدى مواطنيها طوال أكثر من عقد زمنيّ.
“هل هي شطيرة؟”
بنى نافالني مشروعه السياسيّ على كشف فساد النخب في روسيا ومحاربته بدون هوادة. كان بوتين والرئيس الروسيّ السابق دميتري مدفيديف من أبرز أهداف حملته. لكنّ نظرته إلى أوكرانيا وحقّها بالدفاع عن نفسها في مواجهة الحروب الروسيّة ظلّت ملتبسة.
يمكن قراءة الاستياء الأوكرانيّ من مسيرة الرجل في بعض وسائل الإعلام الأوكرانيّة. وصف موقع “فيزيت يوكراين” نافالني بأنّه “لم يكن قطّ صديق أوكرانيا” بسبب مواقفه السابقة. بحسب تذكير موقع “يوكراين وورلد”، حين سئل نافالني في مقابلة مع إذاعة “إيخو موسكفي” سنة 2014 عمّا إذا كان سيعيد القرم إلى أوكرانيا لو أصبح رئيساً، كان جوابه: “هل القرم شطيرة أو شيء يمكن أخذه وإعطاؤه مجدّداً؟ لا أعتقد ذلك؟” وأضاف: “القرم ملك لسكّان القرم. لكنّ القرم الآن، بالطبع، ملك روسيا بحكم الأمر الواقع”.
وفي سنة 2017، دعا في مقابلة مع المعارِضة كسينيا سوبشاك إلى إجراء استفتاء ثانٍ لتشريع الضمّ بشكل نهائيّ. لكن في مقابلة أخرى مع “بي بي سي” في السنة نفسها، اعترف بأنّ ضمّ القرم تمّ بطريقة غير شرعيّة، إنّما لم يكن هناك من حلّ سهل للقضية.
“طرقٌ غريبة للمعارضة الروسيّة”
ثمّة ميل أوكرانيّ واسع إلى اعتبار أنّ الروس سيظلّون توسّعيّين ولو اختلفت آراؤهم تجاه الحكم في موسكو. أيضاً بحسب “يوكراين وورلد”، غرّدت ميروسلافا بيتسا ردّاً على تصريح نافالني سنة 2014 كاتبة: “وفقاً لمنطق نافالني، من المقبول الاستيلاء على أراضي دولة أخرى، لكن من غير المقبول سرقة شطيرة نقانق. طرقٌ غريبة للمعارضة الروسيّة”.
قضيّة أوكرانيا بالنسبة إلى نافالني (والده أوكرانيّ) لم تكن سهلة. كان نافالني يعتبر أنّ البيلاروس والروس والأوكرانيّين شعب واحد، وفق تقرير لصحيفة “واشنطن بوست” في تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023. أعدّ التقرير محرّر شؤون أوروبا الشرقيّة وروسيا في الصحيفة نفسها ديفيد هيرسزينهورن بناءً على كتابه: “المنشق: نبذة عن حياة سجين سياسيّ”.
يعود هيرسزينهورن إلى سنة 2011، حين قال نافالني: “بالطبع، سيكون من العظيم لو كنّا نعيش الآن في دولة واحدة مع أوكرانيا وبيلاروسيا، لكنّني أعتقد أنّ هذا سيحدث عاجلاً أم آجلاً في جميع الأحوال”. بعد الغزو، تغيّر موقف نافالني فرفض الحرب ودعا إلى احترام حدود أوكرانيا المعترف بها دوليّاً كما إلى التحقيق في جرائم الحرب وإلى التعويض على أوكرانيا. لم يذكر القرم بالحرف، لكنّه لم يذكر أيضاً الشطيرة، بحسب هيرسزينهورن.
توقّع عمره أكثر من 100 عام
كانت بداية مسيرة نافالني مطبوعة بالأفكار القوميّة التي أدّت إلى طرده من حزب “يابلوكو” الليبراليّ المعارض سنة 2007. بالنسبة إلى كثير من الأوكرانيّين، يلخّص مسار نافالني عدم قدرة التيّار الشعبيّ الأوسع داخل روسيا على تقبّل فكرة أنّ أوكرانيا دولة مستقلّة.
كانت هذه الفكرة موجودة حتى قبل دخول المعارض الروسيّ المعترك السياسيّ. تردّدُ أوكرانيا حيال التخلّي عن أسلحتها النوويّة أوائل التسعينات كان أحد الأمثلة على خوف البلاد من التعرّض لغزو روسيّ مستقبليّ. وهو يظلّ مثلاً حديثاً إلى حدّ ما. يمكن العودة إلى سنة 1917، حين قال الكاتب القوميّ الأوكرانيّ وأوّل رئيس وزراء للبلاد فولوديمير فينيشينكو إنّ “الديموقراطيّة الروسيّة تنتهي حين تبدأ المسألة الأوكرانيّة”.
قصد الكاتب بذلك أنّ جميع الديموقراطيّين الروس سيتحوّلون إلى “قوميّين إمبرياليّين” بمجرّد حديث أوكرانيا عن وجودها الحرّ. لهذه الأسباب، تنظر أوكرانيا بعين الريبة إلى القوى الروسيّة المعارِضة بشكل عام، لا بسبب عدم قدرتها على التغيير وحسب، بل لأنّها قد تكون غير راغبة بالاعتراف بسيادة البلاد حتى لو منحتها الظروف تلك الفرصة.
“نوعٌ آخر من القوميّين”
صحيفة “كييف إندبندنت” نشرت مقطع فيديو منذ أشهر قليلة جاء في تعليق على مضمونه أنّ معارضة نافالني لبوتين “لا تجعله بالضرورة صديقاً لأوكرانيا”. وأشارت الصحيفة في الفيديو إلى أنّ نافالني انتظر نحو عام بعد غزو روسيا لأوكرانيا كي يعلن أنّ شبه جزيرة القرم أرض أوكرانيّة.
(أ ب)
ليس التشكيك بالمعارضين الروس أو حتى بنافالني محصوراً بالأوكرانيّين. يعدّ الرئيس التشيكيّ بيتر بافل مراقباً عن كثب للشؤون الروسيّة ويحمل نظرة الارتياب نفسها تجاه معارضي بوتين. هو قال إنّ “عقليّة العديد من الروس” تحول دون قيام ثورة ديموقراطيّة روسيّة في المدى المنظور. وخلال مقابلة مع مجلّة “بوليتيكو” في تشرين الأوّل 2022، (قبل فترة قصيرة من انتخابه رئيساً للبلاد) قال بافل: “حتى أليكسي نافالني ليس زعيم معارضة حقيقيّاً. إنّه حتماً ليس ديموقراطيّاً ليبراليّاً، إنّه نوع آخر من القوميّين الروس، بالرغم من أنّه، طبعاً، سيكون نظيراً مفاوِضاً أفضل من القيادة الحاليّة”.
أسير هويّتين
اللافت للنظر في تحليل هيرسزينهورن، مؤلّف كتاب عن سيرة نافالني، اعتباره أنّ الأخير لم يكن أسير سجن روسيّ وحسب، بل أيضاً أسير هويّتيه. لقد قضى وقتاً طويلاً من طفولته في أوكرانيا، وسعى أيضاً إلى عدم فقدان أصوات القوميّين الروس في الانتخابات. كما نظر بإعجاب إلى المعارضة الأوكرانيّة التي تمكّنت من الإطاحة بيانوكوفيتش.
ربّما عانى نافالني لفترة طويلة من حياته في تصوّر مستقبل أوكرانيّ منفصل عن المستقبل الروسيّ. نشأتُه في دولتين بروابط ثقافيّة قويّة تفسّر جزئيّاً هذه المعاناة. نادراً ما يتخلّى الإنسان عن تصوّراته الأساسيّة بسهولة. في بعض الأحيان، ينبغي انتظار حدث صادم لإطلاق قراءة نقديّة تجاه الأفكار الراسخة. في هذه الحالة، أمكن أن يكون غزو أوكرانيا الأوسع هذا الحدث بالنسبة إلى نافالني. وبالمثل، ربّما تكون وفاته هي ما سيكسبه تعاطفاً أوكرانيّاً افتقده خلال حياته.