لماذا يفتقد العراق النظريةالوطنية والقائد؟

16

 

منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، ظلّ المشهد السياسي يعاني من أزمة بنيوية عميقة، لم تكن وليدة الاحتلال الأميركي عام 2003 ولا من إفرازات المرحلة الحالية فحسب، بل هي أزمة ممتدة ومتجذّرة في تاريخ الدولة والمجتمع. فالعراق، رغم حراكه السياسي وتجاربه المتعددة، لم ينتج نظرية وطنية واضحة المعالم تنبثق من واقعه الاجتماعي والثقافي، ولم يفرز قيادة قادرة على أن تكون مرآةً لإرادته الجامعة.
لم يعرف العراق ولادة نظرية سياسية وطنية خالصة تنبع من بيئته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية . وما هيمنت على الساحة كانت نظريات مستوردة . الشيوعية جاءت بأدواتها الأممية، البعث حمل القومية من خارج بيئتنا، وحزب الدعوة استلهم أفكاره من الإخوان المسلمين. حتى عندما تشكّلت هذه الأحزاب بوجوه عراقية، ظلّت تفتقر إلى رؤية تعبر عن الواقع المحلي وتجيب عن أسئلة مجتمعنا الملحة.
هذا العجز في إنتاج نظرية وطنية أصيلة ترك فراغًا قاتلًا، فكل حزب كان يعمل وفق معادلات خارجية، وكل قائد كان ينظر إلى العراق كجزء من مشروع أكبر لا كقضية بذاتها. وبذلك لم يُصنع مشروع وطني جامع يُنتج قيادة تاريخية حقيقية، بل صُنعت زعامات آنية ترتبط بظرف سياسي أو دعم خارجي.
ثم جاء الاحتلال الأميركي عام 2003، ليكشف بوضوح عورة الفكر السياسي العراقي. فإذا كان النظام السابق يحكم بالبطش ويغطي هشاشته بالقوة، فإن سقوطه عرّى الجميع: لا نظرية واضحة، ولا قيادة جامعة، ولا مشروع وطني. تحولت القوى السياسية إلى أوراق مبعثرة تبحث عن غطاء خارجي، وبات المشهد السياسي العراقي مكشوفًا أمام العالم والمحتل على حد سواء. والأسوأ أن هذا الانكشاف لم يقتصر على الطبقة الحاكمة، بل انسحب على صورة الشعب نفسه الذي ظهر في عيون الآخرين وكأنه بلا بوصلة ولا إرادة جامعة.
إذن، غياب النظرية أنتج قادة بلا مشروع، وغياب القادة الحقيقيين جعل أي فكرة إصلاحية بلا حاضنة. هذه الحلقة المفرغة متجذرة منذ التأسيس، وتفاقمت وتجذرت بعد الاحتلال، فأصبح العراق يعيش أزمة مزدوجة: أزمة فكر وأزمة قيادة .
اليوم، السؤال لم يعد: من هو القائد المنتظر؟ ولا: أي نظرية نستورد؟ بل: كيف نُنتج مشروعًا وطنيًا عمليًا من واقعنا، يضع مصلحة العراق أولًا، ويخلق قادة من رحم المجتمع لا من رحم الصفقات؟
والطريق إلى ذلك يبدأ بخطوة أساسية: تشخيص أسباب الفشل بدقة موضوعية ووطنية، ثم تحديد سبل النجاح بوضوح. عندها نكون قد قطعنا شوطًا كبيرًا في رسم ملامح النظرية الوطنية المطلوبة، وحينها فقط سيبرز القائد من أبناء الشعب نفسه ليقود هذه النظرية إلى التطبيق، ويحوّلها من فكرة إلى واقع .

ما يتضح لنا اليوم هو أن الأزمة العراقية أعمق من أن تُختزل في مرحلة ما بعد 2003، فهي أزمة مزمنة لم تعرف الدولة العراقية طريق الخروج منها منذ ولادتها. ومع ذلك، فإن إدراك جوهر المشكلة يمثل بداية الحل. فمشكلتنا الأساسية لا تكمن فقط في أولئك الذين باعوا العراق، بل في عجزنا جميعًا عن إيجاد البوصلة الوطنية المفقودة. تلك البوصلة هي وحدها الكفيلة بإنهاء دوامة التبعية والانقسام، وهي التي ستمهد الطريق لولادة النظرية الوطنية الجامعة، ومن رحمها سيولد القائد الحقيقي الذي طال انتظاره .

التعليقات معطلة.