د. ياسر عبد العزيز
في عام 2021، رفع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، دعوى قضائية ضد شركات التكنولوجيا العملاقة، التي تدير وسائط «التواصل الاجتماعي» الرئيسية، وذلك بعدما حظرته تلك الشركات عقب أحداث الهجوم على مبنى «الكونغرس»، التي تلت تنديده بنتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة ودعوته أنصاره للاحتجاج.
ورغم أن وصول ترمب غير المتوقع لموقع رئيس الولايات المتحدة الأميركية لم يكن ليتحقق من دون استخدامه تلك المنصات المؤثرة والرائجة، كما أقر هو بنفسه في وقت سابق، فإنه صُدم وأُصيب بمرارة كبيرة جراء توافقها جميعاً على حظره.
وفي محاولته للتعبير عن مدى خطورة السلطة التي باتت تتمتع بها تلك الشركات، وقدرتها المتصاعدة على التدخل في مجريات الشؤون العامة، والتأثير في فرص الساسة والأحزاب، رأى ترمب آنذاك أنه «لا دليل أفضل من أنها خرجت عن السيطرة من كونها حظرت رئيس الولايات المتحدة».
نعم. لقد حظرت تلك الشركات رئيس الولايات المتحدة أثناء ولايته، كما حظرته عندما بات رئيساً سابقاً ومرشحاً جمهورياً «رئيسياً»، وبذلك الحظر استطاعت أن تُسكت صوته، وأن تحجم وصوله إلى متابعيه على تلك المنصات كلها، الذين بلغ عددهم نحو 146 مليون متابع؛ وهو أمر قيد بلا شك وصول رسائله السياسية الحساسة والمُهمة إلى أنصاره والجمهور الوطني والعالمي.
ينتهج دونالد ترمب نهجاً شعبوياً بامتياز في مقاربته السياسية، وقد أثار الكثير من اللغط وتلقى عديد الانتقادات على مستويات مختلفة، سواءً عندما كان مرشحاً للرئاسة في منتصف العقد الماضي، أو عندما حقق المفاجأة ووصل إلى سدة الحكم، أو حينما وصف الانتخابات الرئاسية الأخيرة بأنها «مزورة»، وحرض أنصاره على الاحتجاج، ليقتحموا مبنى «الكابيتول» في مشهد صدم الأميركيين وغيرهم، إلى حد أن الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش وصفه بأنه «مشهد ينتمي إلى إحدى جمهوريات الموز».
وكانت بعض ممارسات ترمب على تلك الوسائط تفجر الكثير من الجدل وتثير الإزعاج، خصوصاً عندما كان يقلل من خطورة «كوفيد – 19»، أو يطعن في نزاهة الانتخابات الرئاسية من دون دليل متماسك، أو يحرض أنصاره على الاحتجاج. ومع ذلك، فإن إقدام شركات التكنولوجيا العملاقة على حظر ترمب على منصاتها كان عملاً غير مدروس؛ إذ أعطت تلك الشركات لنفسها حق إسكات صوت رئيس مُنتخب، أو زعيم سياسي يحظى بقاعدة جماهيرية واسعة، بداعي انتهاكه قواعدها، وهو أمر يتجاوز نطاق مسؤولياتها وصلاحياتها، ويُناط بصورة حصرية بالمؤسسات القانونية والسياسية في البلاد.
وعندما رفع ترمب تلك الدعوى، مستنداً إلى التعديل الأول بالدستور الأميركي، وهو التعديل الذي يحظر الإجراءات التقييدية بحق حرية الرأي والتعبير، دافع مؤيدو الحظر عن القرار بذريعة أن التعديل الدستوري يمنع الموظفين العموميين من تقييد حرية الرأي والتعبير، وهو أمر لا يسري على الشركات الخاصة من وجهة نظرهم.
وقد كان هذا الدفاع بالذات دليلاً واضحاً على أن تلك الشركات تخطت حدودها، لأنها باتت في موضع يسمح لها بالتحكم في المجال الاتصالي للمسؤولين والقادة السياسيين، بينما لا يطالها التعديل الدستوري، الذي لم يتخيل واضعوه أن صلاحيات إسكات الأصوات وتقييد حرية التعبير يمكن أن تنتقل إلى أيدي بعض المستثمرين في القطاع الخاص.
بعد مرور سنوات على هذه المعركة التي حدثت في 2021، وبينما كان ترمب محظوراً على «وسائط التأثير الرئيسية»، وبعدما طور منصته الخاصة «ترو سوشيال»، ليتمكن من الحديث إلى الناس، ستقرر تلك الشركات أن تُعيد ترمب إلى الحياة، وسيُعيده إيلون ماسك إلى «تويتر» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ثم سترفع «ميتا» الحظر عنه في «فيس بوك» و«إنستغرام» قبل شهرين، بينما سيعيد «يوتيوب» تفعيل قناته يوم الجمعة الفائت.
ويبدو أن ترمب ابتهج بعودته إلى تلك الوسائط، ورغم أنه لم يُغرد على «تويتر» منذ عاد إليه، فإنه حرص فور عودته إلى «يوتيوب» على أن يوجه رسالة إلى متابعيه، قال فيها: «لقد عدت… آسف لجعلكم تنتظرون». ولم يمض على ذلك وقت كبير، حتى استخدم منصته «تروث سوشيال» في تحريض أنصاره على الاحتجاج «لاستعادة أمتنا»، بعدما قال إنه علم بأنه سيُعتقل غداً الثلاثاء، بسبب اتهامات موجهة ضده.
ستكون الأيام الأميركية المقبلة حافلة بالصدمات والوقائع المثيرة، وستكون شركات التكنولوجيا العملاقة لاعباً رئيسياً في تلك الوقائع وعامل الاختراق المُرجح كما يبدو. فعبرها يتقدم القادة الشعبويون ويصلون إلى الحكم، أو يُحظرون فيخفُت ذكرهم ويبهت تأثيرهم، أو يعودون فيلهمون الناس، ويحرضونهم على الاحتجاج وصناعة التغيير، بينما يعجز الدستور وتعديلاته، والمحاكم وقراراتها، والمؤسسات السياسية والإعلامية الراسخة جميعها عن ضبط الأوضاع، أو صناعة تأثير مُماثل، في جمهورية ديمقراطية بامتياز، وليس في إحدى «جمهوريات الموز».