في خضم الزلازل السياسية التي تضرب الإقليم، ومع تصاعد قرع طبول المواجهات الكبرى، تبتعد غزة تدريجيًا عن بؤرة الاهتمام، رغم أن مأساتها لم تتوقف يومًا .هي الجرح المفتوح الذي ينزف بلا توقف، لكن الضجيج الإقليمي بات أعلى من صوت الدم .
غزة لا تُذبح فقط، بل تُنتزع من الجغرافيا والذاكرة والضمير الإنساني. تُحاصر حتى أنفاس أطفالها، وتُقصف حتى صمت مقابرها، ويُتواطأ على قضيتها بصمت دولي مخزٍ. ليست حربًا، بل امتحان أخلاقي فشل فيه العالم أجمع .
بين أولوية الأمس وتجاهل اليوم
غزة التي كانت لعقود عنوانًا للعدالة، تحوّلت إلى ملف مُهمَل على هامش الحسابات. ففي الوقت الذي يتحدث فيه الجميع عن احتمالات الحرب في الجنوب اللبناني، وملفات التطبيع، وتطورات الملف الإيراني، يُترك مليونا فلسطيني في قطاع محاصر تحت النار، دون غطاء، ودون نصير.
الأنظمة العربية باتت أكثر حذرًا، تضع علاقاتها مع واشنطن وتل أبيب فوق كل اعتبار، وتتجنب أي تصعيد قد يفسد التفاهمات الهشّة. حتى الأطراف التي تتغنى بالمقاومة، باتت تتعامل مع غزة كورقة تفاوض في معركة النفوذ، لا كقضية إنسانية وسياسية تستحق أولوية مستقلة.
إسرائيل وغزة: من التعايش إلى التصعيد الدائم
إسرائيل لم تعد تعتبر غزة مجرد تهديد أمني محصور، بل باتت تنظر إليها كحلقة من حلقات صراع أشمل مع إيران وحلفائها. في ظل هذا التصوّر، لا يُستبعد أن تبادر تل أبيب إلى شن ضربات واسعة، كلما اقتضت مصالحها الاستراتيجية ذلك، بغضّ النظر عن النتائج الإنسانية الكارثية التي يدفع ثمنها المدنيون.
تآكل التعاطف الإعلامي: صدمة أخلاقية
المجازر المتكررة في غزة أصبحت تمرّ كأرقام في نشرات الأخبار. التغطيات تراجعت، وزخم التضامن الشعبي خفت، وكأن الدم الفلسطيني بات مألوفًا لا يثير الدهشة، ولا يستفز الضمير. لقد خسر الإعلام، الرسمي والرقمي، بوصلته الأخلاقية، حينما بات يتعامل مع كارثة غزة بوصفها “اعتيادية”، أو حتى “محلية”، لا ترقى لمستوى القضايا المركزية.
غزة… منبر الصوت المقموع
ما يُراد لغزة اليوم هو أن تصمت، أو أن تُختزل في معادلات الصراع الإقليمي، دون أن يكون لها الحق في التعبير عن ذاتها، أو أن تُعامَل ككيان مستقل في المعاناة والصمود. لكن غزة، كما علّمت الجميع عبر السنين، لا تصمت طويلًا. ومهما طال التجاهل، سيأتي يوم تعود فيه إلى الواجهة، لا لأن أحدًا اختارها، بل لأنها لا تملك ترف الاختباء خلف العواصم.
غزة لا تموت… لكنها تُترَك وحدها
في زمن تعيد فيه القوى الكبرى رسم خرائط النفوذ، وتُعيد فيه الأنظمة ترتيب أولوياتها، تبقى غزة الضحية الأكثر وضوحًا… والأقل اهتمامًا. لكنها رغم ذلك، لا تموت. بل تنتظر، بصبر المقهورين، لحظة العودة إلى ضمير العالم، لا كقضية إنسانية فقط، بل كعنوان للحق الذي لا يسقط بالتقادم .