«مادوف» لبنان وراء القضبان: المحاسبة ممكنة؟

1

حنا صالح

حنا صالح

صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 – 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 – 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 – 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 – 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».

بتأخير يفوق الـ4 سنوات، رياض سلامة المتسلط طيلة 30 سنة على حاكمية مصرف لبنان وراء القضبان! هل تحمل هذه الخطوة تباشير عدالة لم يعرفها لبنان منذ عقود، خصوصاً منذ النهاية الرسمية للحرب الأهلية وصدور قانون العفو عن جرائم الحرب وتكريس قانون الإفلات من العقاب؟ قياساً على التجربة اللبنانية من المبكر التفاؤل، لكن شيئاً من المحاسبة قد يكون ممكناً مع تضافر عوامل شتى داخلية وخارجية!

منذ ما قبل انفجار أزمة الانهيار المالي في عام 2019، والذي كان شرارة انطلاق «ثورة تشرين»، لم يرتبط اسم بالانهيار العام ونهب نحو 120 مليار دولار هي ودائع لملايين المواطنين، مثلما ارتبط اسم رياض سلامة، الذي كان «بروكر» في «ميريل لينش»، فأتى به رفيق الحريري إلى حاكمية البنك المركزي!

وفق تقرير «التدقيق الجنائي»، تجاوز سلامة قانون النقد والتسليف، و«فتح على حسابه»، فأدت الهندسات المالية إلى تكبيد المصرف المركزي 74 مليار دولار خسائر. ارتبط اسمه بـ«فوري» التي نشطت بين 2001 و2015، ولاحقاً بـ«أوبتيموم» التي نشطت منذ عام 2015، وبعدها بـ«منصة صيرفة» التي هدرت أكثر من 20 مليار دولار أسست لقيام شريحة جديدة من الأثرياء الجدد، وتجاوزت الأرباح غير المشروعة الملياري دولار، وعلى الدوام بالتعاميم الظالمة التي فرضت «هيركات» 80 في المائة على المودعين، وبسياسة «دعم» خطرة مولت محتكرين وميليشيا «حزب الله» تحديداً. ومع جمعية المصارف إلى جانب رئيس البرلمان نبيه بري كان التوافق على منع إقرار قانون «كابيتل كونترول» حتى تمكن المحظيون من نقل عشرات مليارات الدولارات إلى الخارج، رغم توقف المصارف عن الدفع، فاستفاد كبار السياسيين والإداريين وكبار الضباط والقضاة!

عبر «فوري»، اكتشف القضاء الفرنسي والألماني جرائم مالية ارتكبت في أوروبا، نجمت عن رشوة وتبييض أموال استفاد منها سلامة وعائلته. فتم حجز حساباته وقيمتها 339 مليون دولار وأملاك عقارية، وصدرت مذكرتا توقيف من فرنسا وألمانيا بحقه بتهم بينها جرائم اختلاس وسرقة وتبييض الأموال، ولاحقاً مذكرة توقيف دولية عن الإنتربول. أما ارتباط اسمه بعمولات «أوبتيموم» فهي قصة كبيرة قال التدقيق الجنائي إن ملف «أوبتيموم» حجب عن المدققين الذين عثروا على عمليتين نجمت عنهما أرباح غير مشروعة قيمتها 112 مليون دولار. ولاحظ التقرير المذكور أن الهندسات المالية عبر «أوبتيموم» مصممة لإنشاء عمولات تدفع لأطرافٍ ثالثة، وسجلت هيئة الأسواق المالية ارتكاب «أوبتيموم» 96 مخالفة في عام 2017 فقط! لكن تدقيقاً أجرته مؤسسة «كراول» بحسابات «أوبتيموم» كشف المستور؛ إذ فاق حجم العمولات الـ8 مليارات دولار!

«فوري» و«أوبتيموم» تأسستا بوصفهما واجهة لأعمال مالية قذرة. على رأس الأولى رجا سلامة شقيق رياض، ورجا أبوعسلي، مدير التطوير في المصرف المركزي، ممسك بـ«أوبتيموم»، وهو «شريك» الحاكم منذ تزاملا في «ميريل لينش». ويكشف الاقتصادي توفيق كسبار عن أن مصرف لبنان كان يبيع ويشتري عبر «أوبتيموم» في الوقت نفسه ويسجل عمولات فلكية. على سبيل المثال ورد في التدقيق الذي أجرته «كراول» أنه بتاريخ 21/6/2017 أبرم المصرف المركزي مع «أوبتيموم» اتفاقية بقيمة 48 ملياراً و600 مليون ليرة؛ كي تسدد قسط المحكمة الدولية، وورد في الاتفاقية نفسها أن قيمة العمولة على العملية تبلغ 24 ملياراً و70 مليون ليرة!

لا شك أن إصدار قاضي التحقيق في بيروت بلال حلاوي مذكرة توقيف وجاهية بحق سلامة ليس أمراً عابراً أو عادياً. مؤكد أن القاضي ما كان ليصدر مذكرة التوقيف، بعد سنوات حظي خلالها سلامة بأعلى حماية، لو لم تكتمل لديه العناصر الجرمية والمستندات، فضلاً عن نتائج جلسة التحقيق. الرجل هو صندوق الأسرار الأسود، لأخطر منهبة أين منها جرائم «مادوف» المالية التي هزّت يوماً «وول ستريت»، فهو من موقعه حاكماً امتلك أسرار الأسماء والأرقام، وكيف وهو وكيل تحالف مافيا سياسية بنكرجية ميليشياوية احتلت السلطة، نهبت المال العام والودائع فأفلست البلد وأفقرت أهله!

رغم دسامة الوقائع يبقى القلق مقيماً، من أن اليد السياسية الغليظة لن تترك التحقيق يأخذ مجراه، بل تعمل لتعطيل مسار العدالة والمحاسبة هناك، ما يشي بمحاولات لتقزيم الملف وحصره بشقٍ متعلق بسمسرات أموال الاستشارات، البالغة 42 مليون دولار، فتكون المحاسبة على أرقام متواضعة من الأموال العامة. فتتم التسوية، ولا تكشف أسماء المتورطين معه، وهم فئات سياسية ميليشياوية طائفية، كما أوساط مصرفية وأوليغارشية وصحافية ودينية.

الظرف العام مُواتٍ لفرض فتح كل حسابات المصرف المركزي بشفافية؛ لأن الانهيار كان مبرمجاً، وضع المواطنين أمام خطر إبادة جماعية، ما يفترض محاكمة شاملة لكشف الحقيقة في تبديد نحو 120 مليار دولار هي أموال المودعين والحقوق التي ينبغي أن يحميها القضاء. إذاك يمكن توقع فتح كوة ضوء وأمل لشعب غالبيته ضحايا، متمسك بقناعته بأن زمن المساءلة والمحاسبة آتٍ، ما سيمنح لبنان واللبنانيين فرصة لبدء تلمس طريق النهوض، رغم تسلط عصبة من الأشرار على البلد!

التعليقات معطلة.