ماذا تعرف عن الرجل الذي آمن على يديه الآلاف وألحد بسببه الآلاف؟

6

كان جيمي سواغارت، الواعظ البروتستانتي، مؤديا يدّعي طرد الشياطين أمام الكاميرا، وصانع محتوى قبل أن تكون صناعة المحتوى حرفة تُمتهن
(أسوشيتد برس)
سلمى أحمد
في منتصف الثمانينيات، وفي ولاية لويزيانا في قلب الولايات المتحدة، كان جيمي سواغارت، الواعظ البروتستانتي يخاطب الملايين، ويدير إمبراطورية تبشيرية تجلب له 140 مليون دولار سنويا!
كان سواغارت يظهر على الشاشات، يغني ويصرخ، يبكي ويئن، وأمامه آلاف المستمعين الخاشعين الذين يكررون حركاته، ويتمايلون على صوته، ويبكون تأثُّرا بأهازيجه، إلى حد أن الكثيرين منهم لم تكن أقدامهم تستطيع حملهم، ليسقطوا أمامه في انهيار وهم يذكرون اسم الرب.
اقرأ أيضا
list of 2 items
list 1 of 2
جون هاغي.. القس الأميركي الذي يدفع نحو الحرب العظمى باسم المسيح
list 2 of 2
الطوفان والنبوءة والساعة… مرحبًا بك في الأزمنة الاستثنائية!
end of list
في منتصف الثمانينيات، كان سواغارت يهاجم المسلمين، والكاثوليك، واليهود، ويهاجم حتى زملاءه من القساوسة البروتستانت التلفزيونيين مُتهِّما بعضهم بالفجور. كانت كلمته كالسيف، يُصدِّقه كثيرون، وكان أتباعه يتضاعفون، فلم يكن قسًّا عاديا، بل كان مؤديا يدّعي طرد الشياطين أمام الكاميرا، وصانع محتوى قبل أن تكون صناعة المحتوى حرفة تُمتهن.
لكن طارد الشياطين سرعان ما أصبح واحدا منهم. فبعد عامين فقط، هوى جيمي سواغارت من عليائه، ومعه هوت قلوب الملايين ممن اتبعوه على الإيمان، إذ نُشرت صورة لسواغارت يدخل فندقا رخيصا على الطريق السريع في ولاية نيو أورلينز الأميركية بصحبة بائعة هوى.
ظهر سواغارت على التلفزيون الوطني راكعا، صوته يرتجف، باكيا، يخاطب زوجته تارة، ويرفع رأسه إلى السماء تارة أخرى: “لقد أخطأت”، أمام جمهور مذهول لم يكن يريد أن يصدق. سيصبح هذا الاعتراف أكثر خطبه شهرة، متجاوزا بكثير صرخاته التي يُشهرها في وجه الشيطان “إنك مهزوم مهزوم”، أو مناظريه من أتباع الطوائف والديانات الأخرى، وهي الصرخات التي صنعت له مكانته في كل بيت أميركي وفي بيوت أتباعه في 148 دولة حول العالم.
جيمي سواغارت مخاطبًا عشرات الآلاف من أتباعه في دولة السلفادور بأميركا الجنوبية عام 1987
جيمي سواغارت مخاطبًا عشرات الآلاف من أتباعه في دولة السلفادور بأميركا الجنوبية عام 1987 (غيتي)
أشعل اعتراف سواغارت بارتكابه الخطيئة أزمة لم تطله وحده، بل أصابت جيلا كاملا من المؤمنين به. فبالنسبة لبعضهم، كان اعترافه الباكي درسا في أنه لا عصمة لأحد. وبالنسبة لآخرين، كان القشة الأخيرة التي قصمت ظهر دينهم: كان رمزا للنفاق، وخيانة للثقة، وإيذانا بانسحابهم من الكنيسة إلى الأبد.
إعلان
لكن سواغارت لم يستسلم للسقوط، فعاد إلى الشاشات، وأعاد بناء إمبراطوريته، واستمر في الوعظ. ومثلما تحولت خطبه ومناظراته وأسلوبه إلى ظاهرة تتجلى الآن في القومية المسيحية التي جلبت الرئيس دونالد ترامب إلى السلطة، تحول أسلوب اعتذاره واعترافه كذلك إلى محتوى يحتذي به السياسيون والمشاهير عندما يُفتضحون أمام العامة، مثلما اعترف الرئيس الأميركي بيل كلينتون بعد ذلك بعشر سنوات أمام التلفاز في أداء أشبه ما يكون بأداء سواغارت.
هذه قصة الرجل الذي جمع بين النقائض، بشّر ونفّر، وأعطى للعالم صورة عما يمكن أن تكون عليه قوة الإيمان بشخص يعظ خلف الشاشات، كما أعطى سقوطه صورة عن هشاشة هذا الإيمان عندما يرتبط الخلاص بالأداء المسرحي خلف الشاشات نفسها.
نشأة الواعظ التلفزيوني
قبل أن يصبح جيمي سواغارت رمزا للمبالغة، كان طفلا حافي القدمين في بلدة فيرّيدي بولاية لويزيانا. وُلد عام 1935 في أسرة فقيرة، كان أبوه صيادا للأسماك، وأحيانا حابلا يصيد الحيوانات البرية لأجل بيع فرائها، وفي بعض الأوقات كان يهرّب البضائع ليبيعها بلا تصريح.
وُلد سواغارت عام 1935، وادّعى منذ صغره أنه تلقى دعوة إلهية للخدمة، وكانت والدته تؤكد أنه سيصبح واعظا في المستقبل، وهي النبوءة التي تحققت بالفعل. بدأ سواغارت حياته واعظا جوّالا، يجوب أرياف لويزيانا برفقة زوجته فرانسيس وإنجيل مستعار.
لم يكن سواغارت قد تلقى تعليما لاهوتيا ولا حمل شهادات كنسية، لكنه كان يملك صوتا وموهبة في تحويل نصوص الإنجيل إلى دراما حية. في الستينيات، بدأ يبث عِظاته المحلية عبر الراديو. وبحلول السبعينيات، انتقل إلى التلفاز، مستغلا -في وقت مبكر-موجة جديدة من الوعظ تُعرف باسم “التبشير التلفزيوني” (Televangelism).
سرعان ما أصبح هذا المصطلح مرادفا لأسلوب سواغارت، وخلال عقد ونيف، تحول برنامجه “Jimmy Swaggart Telecast” من بث متواضع إلى إمبراطورية عالمية. فبحلول عام 1984، كانت برامجه تُعرض في أكثر من 140 دولة، وتُترجم إلى عشرات اللغات.
ويُقال إنه كان يجني أكثر من 500 ألف دولار يوميا من التبرعات، ودورات دراسة الإنجيل، وألبومات الموسيقى. وكان يوظف آلاف الأشخاص، وبنى مجمعا ضخما عُرف باسم “مركز العبادة العائلية”، كان في جزء منه كنيسة، واستوديو، وشركة إنتاج.
بحركاته وآدائه وكاريزميته، كان جيمي سواغارت يكسب نصف مليون دولار يوميًا في منتصف الثمانينات
بحركاته وأدائه وكاريزميته، كان جيمي سواغارت يكسب نصف مليون دولار يوميًا في منتصف الثمانينات (أسوشيتد برس)
وفي وقت كان فيه الرئيس الأميركي رونالد ريغان يستدعي الدين في السياسة، ويضع نفسه في المركب ذاته مع سواغارت، في إعادة صياغة القيم الأميركية باعتبارها قيما مسيحية. كان الأمر متفقا مع ما يطرحه القس التلفزيوني، لكن سواغارت كان متفوقا على ريغان وكل ماكينة السياسة، إذ ابتعد عن الأيديولوجيا ليحوّل البرنامج السياسي إلى تجربة فردية عميقة تمسّ أتباعه وغيرهم، وليمتد أثره لعقود بعد ريغان.
لكن وراء الكاميرات كانت التناقضات تتكاثر. فقد كان مهووسا بالوعظ ضد “الخطيئة الجنسية”، وكان يهاجم الإباحية والزنا بطريقة غير معتادة، وغرق في صراعات على النفوذ مع زملائه من القساوسة البروتستانت، الذين وصفهم بأشنع الألفاظ، التي -في ضوء ما ظهر من حياته- قد تكون إسقاطا نفسيا أكثر منها اتهاما.
إعلان
وفي عام 1986، اتهم سواغارت زميلا له يُدعى مارفن جورمان بالانخراط في علاقات محرمة وبالفسق والفجور. أنكر جورمان هذه الاتهامات وقرر الانتقام على طريقته، فتعقب سواغارت بعد أن وظّف متحريا خاصا ليتمكن من كشف علاقة غير شرعية لسواغارت، الأمر الذي انكشف أمام حشد من محبي النجم في أكتوبر/تشرين الأول عام 1987.
الاعتراف الذي لم يكن
في فبراير/شباط عام 1988، وأمام أكثر من ثمانية آلاف من أتباعه، وقف سواغارت باكيا ومعترفا بـ”خطاياه” على الهواء مباشرة، ليحصد تصفيقا حارا ووقفات احترام متكررة من جمهوره، مؤكدا ندمه عما حدث وعودته لزوجته. وُصفت خطبة سواغارت تلك بأنها من أكثر الخطب درامية في تاريخ التلفزيون الأميركي.
كان لمشهد الاعتراف العلني وقع السحر على المشاهدين الذين بكوا وتعاطفوا معه بعد أن جثا على ركبتيه، فتبعوه وبدأوا التكلم بألسنة، وهي إحدى علامات ما يسمى بحلول الروح القدس عند الكنائس الخمسينية التي انتمى إليها سواغارت.
ورغم كل الدموع، لم يصرّح سواغارت بأي تفاصيل دقيقة حول “خطيئته”، وهو ما يُعد جوهرا تقليديا في ثقافة الاعتراف المسيحي. ومع ذلك، صُنِّفت هذه الخُطبة من قِبل الكنيسة والإعلام بوصفها “اعترافا”، رغم غياب محتواها الجوهري.
لحظات الاعتراف تلك، كما يصفها كتاب “فن التذلل العلني”، للكاتبة سوزان وايز باور، لم يكن هدفها التطهير الروحي بقدر ما كان احتواء الأزمة لحماية موارد الكنيسة المالية، إذ كان سواغارت يُمثِّل مصدر التمويل الأكبر للكنيسة. أكد المسؤولون حينها أن الخوض في تفاصيل الخطايا لن يقدم أي فائدة روحية، بل قد يؤدي إلى خسائر فادحة على الصعيدين المالي والدعوي. ولذلك، طُلب من القساوسة والمجتمع الإنجيلي عدم الخوض أو التكهن في القضية.
بكى جيمي سواغارت وأبكى متابعيه، لكن اعترافه كان عرضًا مسرحيًا أكثر من كونه طقسًا دينيًا
بكى جيمي سواغارت وأبكى متابعيه، لكن اعترافه كان عرضًا مسرحيًا أكثر من كونه طقسًا دينيًا (وكالات)
ووفقا للكتاب، تُمثِّل “توبة” سواغارت لحظة مفصلية تعكس التوتر بين تقاليد الاعتراف المسيحي الكلاسيكي وبين نموذج الاعتراف الحديث في الثقافة الغربية. ففي حين أن الاعتراف المسيحي يقوم على الاعتراف بالخطايا أمام الكهنوت السري للتطهير والمحاسبة، يركّز الاعتراف العلماني الحداثي على الإفصاح الذاتي والتجربة الشخصية، من دون التركيز على الخطأ، حيث مزج سواغارت بين التقليدين، فصاغ خطابه بلغة عاطفية مشحونة دون محتوى قانوني أو لاهوتي واضح، مما سمح للجمهور بتلقيه بوصفه “اعترافا” دينيا، رغم افتقاده إلى مقوّماته الأساسية.
لم تكن خطبة الاعتراف هي الوحيدة. فقد أعقبها بخطبة “العودة”، التي مَثَّلت حملة خطابية لإعادة بناء مكانته الروحية. في هاتين الخطبتين، ركّز سواغارت على أن اللغة لا تكفي للتعبير عن معاناته، وأن الخطيئة أمر شامل يطول الجميع، مما حوّل القضية من مشكلة شخصية إلى مسألة إنسانية عامة.
تدل اعترافات سواغارت على أن الاعتراف لم يعد ممارسة روحية خالصة، بل تحوّل إلى أداة سياسية يمكن من خلالها التملص من المساءلة. فمن خلال تصوير نفسه ضحيةً للضعف البشري، تمكّن من تقليص المطالبات بالمحاسبة، وتحويل النقاش من الفعل الأخلاقي إلى العاطفة الجماعية.
يُعد سواغارت بهذا المعنى مؤسِّسا لنموذج جديد للاعتراف، يدمج بين التوبة الدينية والخطاب السياسي، حتى بيل كلينتون، في ذروة فضيحته الجنسية، استعان بلغة الاعتراف الإنجيلي ليحافظ على ارتباطه بالجمهور. لم يكن اعترافه مجرد فعل دفاعي، بل أداة تواصل فعّالة مع ناخبيه، وسمح الاعتراف الناجح لبيل كلينتون بالحفاظ على معدلات تأييد مرتفعة، رغم حجم الفضيحة، مما يعكس مدى قوة هذا الطقس في تشكيل الرأي العام وإعادة بناء الثقة.
أما في الكنيسة نفسها، فلم يكن هناك تقبُّل كبير لهذا “الاعتراف” الجديد.
فالطائفة التي ينتمي إليها سواغارت لم تكن مهتمة بالتنفيس العاطفي الجماعي بقدر ما كانت مهتمة بالمساءلة عن الأخطاء. فبعد أن عانت من فضائح متلاحقة، أبرزها سقوط جيم باكر، الذي كان سواغارت قد هاجمه في السابق بالفعل، جاء اعتراف سواغارت الغامض وغير المفصل ليؤدي إلى خلعه من رتبته الدينية، فسُحبت منه أوراق اعتماده، ولم يعد يُمثِّل الطائفة رسميا.

التعليقات معطلة.