د. عبد الحق عزوزي
أكاديمي مغربي متخصص في العلوم السياسية والقانون
نتذكر جميعاً خروج بريطانيا من أوروبا، الذي نزل شؤماً ومصيبة على كل رعاة وبناة الاتحاد الأوروبي، وعلى كل أولئك الذين يؤمنون بمبادئ الوحدة الأوروبية والتعاون بين الجيران… بريطانيا دولة عظمى منذ قرون، ومؤسسة لقواعد الانتخابات والتمثيلية الديمقراطية قبل أن تعرفها دول عريقة مثل الولايات المتحدة أو فرنسا.
الذي كان قد وقع منذ سنوات وجعل رئيس الوزراء آنذاك ديفيد كاميرون يستقيل، والمؤسسات الأوروبية يصيبها الذعر والهوان، والتحالفات الاستراتيجية بما فيها الأميركية – البريطانية ثم الأميركية – البريطانية – الأوروبية تستيقظ على زلزال قوي، هو أن البعد الوطني السيادي الأحادي قبر البعد الوحدوي الاتحادي التشاركي، وأن الذي قام بهذا التوجه ليست دول مثل البرتغال أو المجر، وإنما أقوى دولة أوروبية ومن أقوى دول العالم، فلم تفلح دعوات الرئيس الأميركي آنذاك الذي نادى البريطانيين من قلب العاصمة لندن بالتزام الحكمة، ولا وصول عمدة مسلم إلى بلدية لندن أقوى العواصم في العالم. لم يفلح كل هذا في إقناع متكلمي لغة شكسبير من تفضيل البُعد الاتحادي على البُعد الوطني؛ ثم إن الذي حدث هو أن البريطانيين لهم إحساس قوي بأنهم شعب التاريخ المختار، وأنهم ينتمون إلى دولة قوية يمتد جذورها عبر القرون، وأن المؤسسات الأوروبية الوضعية لا يحق لها إملاء قوانين أو قيود على بلدتهم أو إعطاء دروس لهم عن التعايش مع الآخر، أو كيف يجب أن يتعاملوا مع الأطياف المجتمعية المختلفة…
ولكن ما وقع في الأسابيع الماضية من اندلاع أعمال عنف عنصرية ومعادية للأجانب، جعل ذلك يؤكد أن الكراهية ومعاداة الأجانب والفوارق المجتمعية تنخر كل الدول الغربية بما في ذلك بريطانيا، حيث إن مسألة السلم المجتمعي دائماً ما تكون على المحك.
وهاته الاضطرابات وقعت بعد هجوم بسكين أودى بحياة ثلاث فتيات خلال درس للرقص في 29 يوليو (تموز) في ساوثبورت، شمال غربي إنجلترا، بعد انتشار شائعات حول المشتبه به، روجتها بطريقة ذكية حسابات يمينية متطرفة مؤثرة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث ادعت أنه طالب لجوء مسلم؛ والبقية معروفة: مباشرة بعد ذلك، اجتاحت أعمال العنف شوارع عشرات المدن البريطانية، وشملت أعمال الشغب المساجد ومراكز إيواء المهاجرين في مختلف أنحاء المملكة المتحدة، وتم اعتقال أكثر من 900 شخص، ووجهت اتهامات إلى الكثير منهم بارتكاب أعمال عنف أو التحريض على الكراهية عبر الإنترنت، قبل أن تكتشف وتصدر الشرطة إعلاناً عن هوية المشتبه به، أكسل روداكوبانا، الذي يبلغ من العمر 17 عاماً، وهو من مواليد كارديف لعائلة من رواندا، ذات أغلبية مسيحية.
عندما أرادت بريطانيا الخروج من مشروع الاتحاد الأوروبي، كان أهل الحل والعقد فيها يقولون إن دولتهم ليست مثل غيرها من الدول، وإن لها منظوراً مخالفاً عن الهجرة وعن بناء السلم الاجتماعي، وإنها عاصمة عالمية لقبول الآخر كيفما كان نوعه، ونموذج في مجال التعددية والبناء الحضاري، ولكن تؤكد الاضطرابات الأخيرة وما قيل وكتب من طرف ممثلي الأحزاب إبان الانتخابات الأخيرة، أن ما يتعلق بخبايا وجنبات الهجرة شبيه بالذي يقع في الدول الأوروبية الغربية وفي الولايات المتحدة، وأن مشاكل السلم المجتمعي متشابهة أيضاً، لذا تكثر المزايدات والمضاربات السياسية على حساب المهاجرين، وخصوصاً المسلمين منهم الذين يصبحون رهائنَ لسياسات أمنية، ويتم الخلط بين الهجرة والإرهاب والمخدرات والجريمة، وترصد أموال طائلة لمحاربة الدخول السري للدول الأوروبية، في حين أن هذا المشكل لا يطال سوى 10 في المائة من الهجرة غير الشرعية التي في أغلبها تنجم عن تمديد دخول شرعي إلى إقامة غير شرعية. وتتقاسم دول الضفة الجنوبية هذه المقاربة الأمنية التي طورت بدورها سياسات مضادة للهجرة وشدّدت المراقبة، مما أدى بالمهاجرين إلى سلك معابر شاقة وأكثر خطورة (باستخدام قناة سيسيليا بدلاً من بريندسي، وجزر الكناري عوضاً عن مضيق جبل طارق).
وتشير كل الأبحاث إلى أنه كلما كانت الحدود مفتوحة، سهل مرور المهاجرين (كما هي الحال في أوروبا الوسطى والشرقية منذ سنة 1991)، وكلما أصبحت التخوم مغلقة، كثر التهريب، وأضحى المهاجرون يستقرون بصفة عشوائية حينما تنقصهم الوثائق اللازمة نتيجة عدم القدرة على المغادرة أو العودة فيما بعدُ، وهذا ما تعاني منه بريطانيا اليوم رغم خروجها من الاتحاد الأوروبي.
وعندما عاينت الحكومة البريطانية هول ما يجري في شوارع مدنها، اكتشفت أسلحة وسائل التواصل الاجتماعي خاصة منصة «إكس» التي استعملها اليمينيون المتطرفون والنشطاء المناهضون للهجرة والمسلمين، حيث قاموا بترويج معلومات مضللة لتأجيج التوتر. وهي كلها شبيهة بما يجري في الدول الأوروبية الأخرى، ومثال واحد على العلاقة بين المعلومات الكاذبة عبر الإنترنت والاضطرابات المدفوعة بدوافع سياسية.