محمد بدر الدين زايد
تأتي الإجراءات التي اتخذها حزب المؤتمر الوطني الحاكم في جنوب أفريقيا تجاه رئيس الجمهورية جاكوب زوما؛ لتذكرنا بوقائع تبدو متشابهة، حينما عزل الحزب رئيسه السابق ثابو مبيكي في أيلول (سبتمبر) 2008، ولكنها في حقيقة الأمر تحمل الكثير من التباينات والدلالات. على أن نقطة البدء لفهم بعض أبعاد السياسة والحكم في هذه الدولة المهمة تستدعي التوقف عند محطة يغفلها الكثيرون، وهي تلك المرحلة التي شهدت المفاوضات النهائية لإنهاء وطي صفحة النظام العنصري البغيض.
ففي هذه المرحلة قامت عناصر مسلحة تابعة لهذا الحزب بكثير من أعمال العنف والسيطرة ضد قوى سياسية أخرى شاركت في النضال ضد النظام العنصري؛ لتهيئة المناخ للحصول على أغلبية مريحة في أي انتخابات برلمانية لاحقة، ولكي لا يتكرر ما حدث في الجارة زيمبابوي. ومن ثم هيأت هذه الأوضاع لاستنساخ تجربة هيمنة حزب الاستقلال الرئيسي في شؤون ما بعد التحرر، وربما لولا قيادة الزعيم التاريخي نيلسون مانديلا التي استوعبت مكونات المجتمع السياسية والاجتماعية المتنوعة والأكثر تطوراً من مكونات مجتمعات أفريقية أخرى لحظة الاستقلال؛ لبدا نموذج جنوب أفريقيا شبيهاً بما عرفته دول القارة من أشكال مشوهة لسيطرة الحزب الواحد على مقاليد الدولة والمجتمع.
بعدها تسلّم ثابو مبيكي من مانديلا قيادة الحزب والبلاد بسلاسة، ولأن الأول كان زعيماً مثقفاً وصاحب رؤية عميقة، كما كان يتمتع بدرجة عالية من طهارة اليد وتجنب الشبهات، وكان أحد القيادات الواعية التي لعبت دوراً مهماً في الكفاح الخارجي بمهاراته الديبلوماسية، إلا أنه لم يكن يتمتع بالمهارات اللازمة للشارع الجنوب أفريقي، والتي كانت مطلوبة لتعبئة الجماهير محدودة التعليم نسبياً؛ والتي هي في النهاية بحشودها وإصرارها كانت الوقود الضروري للثورات ولاستعادة الحقوق المشروعة للأغلبية الوطنية. وكان جاكوب زوما أحد هذه القيادات الشعبية في الداخل. من هنا تأتي هذه المقارنة، ففي مقابل شخصية مبيكي المثقف الأرستقراطي الفكر والتكوين النفسي والسياسي والقادر بدرجة كبيرة على استمرار طمأنة الأقلية البيضاء التي احتواها مانديلا، وازداد كثيرون منهم إيماناً بعد تقاعده وحتى بعد رحيله بأنه كان راعياً أبوياً عظيماً للوطنية المشتركة التي تجمع مكونات هذا المجتمع المتنوع. وبقدر ما كان مبيكي قادراً على مواصلة مقدار كبير من التواصل مع هذه الأقلية، بقدر ما كانت قدرته على مخاطبة الجماهير السوداء أقل بكثير من نائبه السابق زوما على مخاطبتها بخطاب شعبوي يدغدغ مشاعرها، وبخاصة الشرائح غير المتعلمة أو محدودة التعليم، سواء من الفقراء أو الطبقة المتوسطة الصغيرة الراغبة في الانتقال والحلول محل الأقلية البيضاء في الثروة والمال.
من هنا استمر مبيكي في التركيز على مخاطبة العالم الخارجي واكتساب احترامه لسعة أفقه وثقافته وقدرته على ابتكار الأفكار التي تعكس قيادته الفكرية؛ مثل تجمع «الأيبسا»، الذي جمع بلاده والبرازيل والهند، وللأسف لم يتجاوب الرئيس المصري السابق حسني مبارك مع دعوته للمشاركة في هذا الصدد في البداية وهو ما تعذّر بعد ذلك. كما كان دوره في قيادة القارة الأفريقية ومخاطبة مشكلاتها وتحدياتها نموذجاً آخر جعل بلاده تتمتع بدور بارز في الساحتين الإقليمية والدولية. لم يستطع زوما الذي حافظت بلاده على قوة الدفع في بداية عهده أن يواصل الدور نفسه. ونعود إلى المقارنة بإقالة مبيكي، فقد أمكنت مواصلة المعادلة، من تركيز مبيكي خارجياً وترك الساحة الداخلية لنائبه زوما، ولو كانت الهوة الشخصية والتفاهم صعب بين الرجلين، إلا أن تورط زوما في فضائح شخصية ومالية دفع مبيكي إلى إقالة نائبه ذي الشعبية الطاغية في أوساط الأغلبية السوداء وقواعد الحزب، وهو القرار الذي استقبل بفتور وعدم ارتياح واضح لدى الحزب الحاكم وكوادره بل ونسبة مهمة من قياداته. إلا أن الموقف انفجر عندما أصدرت محكمة عليا حكماً بالغ الأهمية وهو أن التحقيقات في تورط زوما شابتها إجراءات سياسية، ما اعتبر متناقضاً مع القيم الليبرالية القانونية. وهو ما استغله الحزب الحاكم الذي كان زوما فاز برئاسته بعد إقالته؛ في رسالة واضحة لنفوذه مقارنة بمبيكي. اجتمع الحزب مطالباً باستقالة مبيكي الذي شعر بعزلته، فاستقال فوراً. كان الذين أطاحوا الرجل خليطاً من أطراف عدة فمنهم الذين يشعرون بأن هناك حاجة من المزيد من تمكين السود بوتيرة أسرع، وهناك مَن كانوا يشعرون بعدم التواصل مع هذا الزعيم الذي يعطي أولوية للخارج. وهناك أيضاً مَن أراد أن يمكنهم زوما من المزيد من اقتسام المنافع والغنائم. تجّمع هؤلاء وأطاحوا مبيكي من رئاسة الحزب أولاً ثم من رئاسة البلاد.
من هنا، إذا نظرنا إلى المشهد المتكرر بين 2008 و2018، لوجدنا تباينات عدة، فالمبالغة في الادعاء بالدفاع عن المثالية القانونية لم يكن له مبرر، كون المحكمة لم تفصل في قضية الفساد أساساً، ولم يعبأ الحزب بأي شبهات كانت تستدعي أيضاً في التقاليد القانونية المثالية التريث حتى إبراء الذمة القانونية الكاملة. أما هذه المرة، فالقرار تأخر كثيراً، إذ وصل الفساد إلى حالة غير مسبوقة، وقررت المحكمة العليا في 2016 أن زوما انتهك الدستور، كما صدر حكم آخر بأنه يجب أن يواجه 18 تهمة فساد واحتيال، بل وأشارت مصادر إعلامية إلى أنه والمحيطين به متورطون في أكثر من 800 قضية فساد. واحتاج الحزب إلى صدمة تحقيق نتائج متراجعة في الانتخابات المحلية العام الماضي؛ ليخرج من غفوته المتعمدة ويصدر هذا القرار المتأخر. ومن ناحية أخرى كان الحزب يتجاهل عداء ورفض فئات عدة من المجتمع تتجاوز الأقلية البيضاء إلى الكثيرين من المثقفين والمتعلمين السود لاستمرار زوما في الحكم رغم كل هذه المفارقات والتجاوزات، وبالتحدي لإعلام واصَل منذ البداية عداءه للرجل استناداً إلى جوانب سلوكية متعددة تشمل بالإضافة إلى الفساد علاقاته النسائية وكثرة زيجاته، حتى أصبح الاسم الجديد الشائع إعلامياً له ZEXIT وهو ما يشمل الحرف الأول من اسمه مضافاً إليه كلمة خروج. وكان الحزب يتجاهل الإعلام تقليدياً بحجة سيطرة الأقلية البيضاء عليه، أما الآن فقد اتسعت الانتقادات الإعلامية في شكل غير مسبوق. وإلى أي ما كان ستؤول الأمور في هذه المواجهة، فثمة أمران مهمان يجب أخذهما في الاعتبار: الأول أن دروس التاريخ تؤكد دوماً أنه لا مناص من حدوث تراجع تدريجي في مكانة حزب الحركة الوطنية الذي يهيمن على الحياة السياسية معتمداً على سجله الوطني بسلبياته وإيجابياته في المراحل التالية للاستقلال؛ سواء من القوى الاستعمارية أو من تجارب مشابهة كالفصل العنصري، وأنه في معظم الحالات تسقط فريسة للفساد أو تيبس الحكم أو المبالغة في الثقة، وكأن هناك حقوقاً مكتسبة لا تنفَذ بسبب هذه الأدوار التاريخية. حدث هذا في دول أفريقية عدة، وفي الهند مع حزب المؤتمر، وفي حالات أخرى. وما يفعله الحزب الحاكم في جنوب أفريقيا هو محاولة لإنقاذ ما تبقى من هيمنته، ما قد يؤجل هذا التطور الطبيعي إلى حين بحسب مدى كفاءة الزعيم الجديد، رامفوزا، وبحسب كلفة مقاومة أنصار زوما واستمرار بعض تأثيره. ولكنه تطور طبيعي واقع لا محالة وستغذيه بالضرورة وفي شكل تدريجي الطبيعة المتنوعة والمركبة للمجتمع الجنوب أفريقي.
الأمر الثاني أن الديموقراطية عملية معقّدة ولا تسير على وتيرة واحدة. فعزل مبيكي ثم زوما، قد ينظر إليه على أنه علامة على قوة الحزب والتقاليد الديموقراطية. نعم هو دليل على قوة المؤسسية في الحزب، ولكن ليس الديموقراطية في الحالتين. فملابسات عزل مبيكي لا تعني ديموقراطية بقدر ما هي توظيف لها لتحقيق مصالح فئات بعينها. أما بالنسبة إلى زوما، فإن التأخير في اتخاذ القرار يظل بعداً سلبياً لا يمكن تجاهله. مع ذلك حققت جنوب أفريقيا إنجازات مهمة سياسياً وعلى الأصعدة كافة، ولكنها ستظل في حاجة إلى جهود كبيرة للحفاظ على تجربتها الديموقراطية وما تمثله من مفاهيم التعايش وقبول الآخر.