محمد المختار الفال
ينعقد الثلثاء المقبل مؤتمر وارسو، الذي دعت إليه الولايات المتحدة، في سياق جهود الرئيس دونالد ترامب لمحاصرة إيران وبناء حلف دولي يضغط على طهران لإيقاف سياستها المقلقة في المنطقة. وقبل انعقاد المؤتمر تشكّلت مواقف متباينة أوضحها وأكثرها حدة الموقف الروسي الذي وصف المؤتمر بأنه «ضار بالاستقرار والسلام في الشرق الأوسط لأنه يتجاهل الصراع العربي – الإسرائيلي»، وبدا الأوروبيون غير متحمسين للمشاركة لأنهم يخشون أن يؤدي المؤتمر إلى «شق الصف الأوروبي». وليس خافيا أن إدارة الرئيس ترامب ومنهجه «النفعي» الذي يستخدم المبادئ لتحقيق مصالح اقتصادية، تنعكس على حياة الأميركيين وتجير نتائجها وتأثيرها لحساب الانتخابات المقبلة، هذه الإدارة تستخدم أدواتها الخشنة والناعمة لتوفير القناعة الكافية لدى العدد المقبول والمؤثر، من الدول لتكوين جبهة ضد إيران، تترك أثرها على سياستها وتلين مواقفها وتكبح اندفاعها وشهيتها للتوسع في المنطقة، فهل ستتمكن واشنطن من حشد ما يمكن اعتباره نقلة نوعية في مواجهتها مع طهران، أم أن المؤتمر حلقة في التجاذبات المستمرة؟ من المعروف أن لإيران مشروعها التوسعي في العالم الإسلامي من داكار غرباً حتى جاكارتا شرقاً، منذ مجيء الثورة عام 1979، وهذا المشروع يستهدف: توسيع التأثير على مشاعر الشعوب ومواقف دولها في مقابل الأكثرية المقاومة، والسعي لبناء قوة «خشنة» رادعة تجعلها «ورقة» تتفاوض بها مع الدول الكبرى لتمضي في مشروعها «الناعم». والحقيقة، التي قد لا تعجب الكثيرين، أن الإيرانيين تمكنوا من اجتياز محطات صعبة على طريق أهدافهم، وإن كان الثمن باهظاً على الصعيد الداخلي، الذي بلغ حافة الهاوية، ولولا ماكنة الدعاية والسيطرة على مفاصل الحياة، من قبل المتشددين والمؤمنين بأفكار التيار الثوري، لانهار الكيان. وقد جيش تيار الثورة شعارات المظلومية واستدعى التاريخ وبشر بتهيئة الظروف، لظهور «الغائب» كما استثمر أخطاء السياسة الأميركية وتعاملها من قضايا المنطقة، في ظل إدارة بوش الابن، التي مهدت نتائجها لما تم في عهد باراك أوباما، كما استفاد من ابتعاد غالبية الدول العربية عن الاتحاد الروسي، ما دفعه إلى البحث عن حلفاء تجمعهم المصالح، وإن اختلفت التطلعات، يستطيع من خلالهم العودة إلى المنطقة، بعد تراجع دوره وتأثيره إثر سقوط سلفه الاتحاد السوفياتي، أما العنصر الأساس الذي مكّن إيران من المضي في محاولة تحقيق مشروعها التوسعي، فهو حال «الارتباك» التي مرت بالمنطقة العربية وتراجع مشروعها الجامع وبروز تجمعات إقليمية، أضعف وجودها حيوية المظلة الجامعة. هذه «المراوحة» ما بين الانتماء «الجامع» والانحياز الإقليمي والطائفي كشفت ثغرات في المنظومة العربية استغلتها إيران، وكان أبرزها الموقف السوري، إبان الحرب الخليجية الاولى، حين وقف حافظ الأسد مع إيران ضد العراق، بغض النظر عن الحقائق في الحرب ومن أشعلها، وهي المرة الأولى، في العصر الحديث، التي تقف فيها دولة عربية ضد أخرى مساندة طرفاً ثالثاً غير عربي، وهذا الموقف الذي أزاح الستار عن هشاشة وتصدعات حقيقية في الجسد العربي، كانت تخفيه شعارات آمن بها البعض، وعمي بها آخرون، هذه الثغرات أمكن اختراقها بأكثر من طريقة ووسيلة، ففي سورية تم الاختراق من خلال الدولة التي جسرت العلاقة مع مجموعات طائفية انتهى الأمر بثلاث منها إلى السيطرة على ثلاث عواصم عربية، افتخرت إيران، فيما بعد، أنها
تتحكم فيها.
الآن تبدو الصورة أكثر وضوحاً: إيران تشكل تهديداً حقيقياً على بعض دول الخليج، السعودية بالدرجة الأولى والبحرين، وتهادن دولاً أخرى «تكتيكياً» وتسيطر على ثلاث منها بواسطة «وكلائها»، والولايات المتحدة، إدارة ترامب، تقف ضد التحرك الإيراني في إطار تدافع المصالح وتعمل مع حلفائها في المنطقة لإحكام الضغط على طهران والتضييق عليها، اقتصادياً ومالياً وتجارياً وعلمياً، أدواتها في ذلك قدراتها الخشنة والناعمة، ولكن علمتنا التجارب أن واشنطن تتحرك، من دون أي اعتبارات أخرى، لتحقيق مصالحها، وهذا شيء طبيعي غيره، هو الشاذ في سلوك الدول وعلاقاتها مع الآخرين، وأن سياسة ترامب «النفعية» لن تتردد في إعادة في إعادة النظر في هذا التوجه متى ما قدّم الإيرانيون ما يدعو لذلك، والإيرانيون لا يترددون في تقديم ما يغري واشنطن متى ما أدركوا أن الثمن المدفوع يشتري «مصلحة» مساوية أكثر منه، وروسيا «المنتشية» بنتائج إقدامها في سورية، ما تزال ترى أن الحليف الإيراني «ضرورة» في لعبة شد الحبل الجارية في الميدان وفي كواليس المؤتمرات والندوات واللقاءات، خاصة مع حالة الشك الظاهرة على السطح بين واشنطن وأنقرة، التي تدفع بتركيا إلى إعادة حساباتها مع إيران وروسيا، وليس في الأفق ما يتحدث عنه البعض من أن موسكو ستصل، قريباً، إلى طريق مسدود مع طهران بعد أن تناقصت فوائد التحالف معها بعد الفوز بمعركة سورية، على العكس تبدو الملابسات الدولية والوضع الإقليمي مبرراً منطقياً يجعل العلاقات الروسية – التركية – الإيرانية مرشحة للاستمرار في هذه المرحلة حتى تتم تصفية القضايا العالقة وتقفل الملفات المفتوحة في اليمن ولبنان وتصفية القضية السورية والاطمئنان إلى أن «المشروع الكردي» تمت السيطرة عليه، وهو المشروع الذي يقلق الدول المتصلة به جغرافياً: إيران، تركيا، سورية، هذا التحرك المحسوب مرشح للبقاء فترة غير قليلة، على رغم تعارض المصالح الاستراتيجية بين تركيا وإيران، وإلى حد ما بين روسيا مع تركيا.
والسؤال: هل يلتقي الاستنتاج العربي عند خطورة التهديد الإيراني، أم أن النظرة للتحرك الإيراني مختلف حوله إلى درجة التعارض؟ ليس من «التشاؤل» تقرير حقيقة الاختلاف العربي حول الموقف من إيران حتى داخل التجمعات الإقليمية: في الخليج وفي الشمال والمغرب العربي، وبالتالي لا ينتظر أن تشكل الكتلة العربية «جسماً» موحداً ضاغطاً على إيران أو معطلاً لمشروعها، وهذا يعني أن «التمنيات» لا تخلق واقعاً مؤثراً، ما يفسر ويبرر التحرك السعودي في مواجهة المشروع الإيراني مع الحرص على الاحتفاظ وتنمية الإجماع العربي، المنطق لا يطالب من يقف في مواجهة الخطر أن ينتظر الإجماع غير المتوافر، فالمصلحة تقتضي التحرك، بالقدر الذي يحمي الأوطان ويمنع تمدد السموم في الخريطة العربية، والعلاقة السعودية الأميركية، حجر الزاوية في هذا التحرك لأسباب كثيرة منها: المصالح المشتركة وقناعة الطرفين بحاجة كل منهما للآخر، لكن التاريخ والحكمة ومعرفة طبيعة العلاقات جعلت الرياض تمد أسباب التعاون ومناصرة القضايا وتبادل المنافع إلى دول إقليمية ودولية مؤثرة، والتعاون مع روسيا في مجال الطاقة والسلاح والصناعة نموذج لهذه السياسة المعبرة عن حرية الإرادة والبحث عن تحقيق المصالح والانفتاح على الجميع.
والخلاصة أن «موازنة» الـتأثير الإيراني لا تتشكل إلا بقوة أهل المنطقة مهما توفّر الضغط الدولي، فهل يدرك العرب هذه الحقيقة ويعملون على توفير أسباب القوة؟
* كاتب سعودي.