ماكرون وأوراسيا… عالم غير متوقع الأقطاب

1

 
إميل أمين
 
هل يضحى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون «حجر الزاوية» في البناء الأوراسي، ذلك الحلم الذي داعب مخيال السياسيين والمفكرين في آسيا وأوروبا منذ أكثر من مائة عام… ماذا عن الفكرة الأوراسية بداية؟
تشير الأوراسيا إلى الرابط الروحي للشعوب الأوروبية والآسيوية في باطن التاريخ من ناحية، ومستقبلاً من جهة أخرى، والرؤية في جذورها مستمدة من الأعمال الذهنية للأمير الروسي نيكولاي تيربتيسكي (من مواليد موسكو 1905) عالم اللغات والسياسة واللاهوتي والباحث الاجتماعي.
كان في مقدمة المؤمنين برؤية القارة الأوراسية الرئيس الفرنسي شارل ديغول، وقد اعتبر أن تلك الرقعة الجغرافية من البسيطة مهد للثقافة والحضارة الإنسانية، وأنها أعطت ولادة إلى مختلف الأشكال الاجتماعية والروحية والسياسية التي تشكل الجوهر الرئيسي للتاريخ البشري.
هل نحن أمام حركة جديدة للتاريخ الغربي؟
الإيمان بأوراسيا يعني مفهوماً جديداً لكتلة بشرية وجغرافية تمتد من المحيط الأطلسي غرباً إلى جبال الأورال في آسيا شرقاً، وعليه فإنها طرح ثنائي القطبية، يمتلك أوروبا وآسيا، من الشرق إلى الغرب، إنها تاريخ من الحوار البشري، وجدلية الطاقة والتكنولوجيا، وقيمة كبيرة للتبادل بين قطبين عبر أكثر من ألف سنة.
منذ أن دخل ترمب البيت الأبيض، وهو يعلن غضبه على دول الاتحاد الأوروبي، وإن كان مرده اقتصادياً وليس آيديولوجياً أو دوغمائياً، الأمر الذي تنبه له الأوروبيون، ويبدو أن ماكرون في شراكته مع ميركل، مصمم على بلورة آفاق سياسية أوروبية تكاد تقترب من الطرح الأوراسي بشكل أو بآخر.
في خطابه السنوي الذي يلقيه كل عام، دافع ماكرون عن أهمية وحدة أوروبا وتعاضدها، معتبراً أن العام 2018 سيكون حاسماً في معركة بقاء الاتحاد الأوروبي.
البراغماتية السياسية الفرنسية تجلت في إعراب ماكرون عن اعتقاده بأن أوروبا يمكن أن تصبح مركزاً جديداً للسلطة، بسبب إمكاناتها الاقتصادية والاجتماعية والعلمية، وأن تدافع عن مصالحها الخاصة على قدم المساواة مع الولايات المتحدة والصين.
لم يكشف ماكرون المشهد الأوراسي المتوقع بصورة كاملة، غير أن وزير الاقتصاد والمالية في حكومته برونو لومير فعل ذلك في الأيام الأولى من العام الجديد، عندما أشار إلى أن بلاده تخطط لمد «خط تجاري» عبر روسيا، يربط أوروبا بالصين.
لومير في تصريحات لصحيفة «وول ستريت جورنال» أكد أنه يعتقد «أن تطوير العلاقات التجارية مع روسيا والصين قد يخفض من وطأة (عدم اليقين المتزايد) في العلاقات مع الولايات المتحدة».
الصراحة الفرنسية الآنية لماكرون وطاقم حكمه تكاد تذكرنا بالمواقف الشهيرة لشارل ديغول من الجانب الآخر من الأطلسي، وهو ما تجلى بالفعل في أقوال لومير الذي شدد على أن بلاده «تريد التحرر من ذلك العالم الذي تسوده العلاقات التجارية عبر الأطلسي حصراً، إلى عالم أكثر توازناً».
الاقتراب من الأوراسيا قد يكون بالفعل من نتاج أعمال ترمب الساعية للهيمنة والسيادة الأميركيتين، ومن دون الأخذ في عين الاعتبار مصالح الشريك الأوروبي، ذلك الذي يعتبر العقوبات الأميركية على روسيا تتجاوز الحدود الإقليمية، وتمنع الشركات الأجنبية العاملة في الولايات المتحدة من التعاون مع روسيا.
لا يختلف الموقف الألماني كثيراً عن نظيره الفرنسي، ففي أوائل ديسمبر (كانون الأول) الماضي أعلن زيغمار غابرييل وزير الخارجية الألماني، أن العقوبات الأميركية الجديدة المفروضة على روسيا، تهدد في جوهرها المصالح الاقتصادية لبلاده.
والشاهد أن المتابعين لتصريحات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل يدركون الرفض المؤكد للعقوبات الأميركية على روسيا عطفاً على استشراف رؤية ميركل لوحدة جغرافية وأمنية، عبرت عنها بأمنية القيام برحلة من بلدها إلى سيبيريا عبر خط سكك حديد واحد يربط البلدين.
الإجماع على أوراسيا، وإن كان في بدايات إرهاصاته، إلا أنه يكاد يكون متفقاً عليه من اليسار الأوروبي، وبالقدر نفسه من اليمين أيضاً، فعلى سبيل المثال تحدثت زعيمة «الجبهة الوطنية الفرنسية» ماريان لوبان في الأيام الأخيرة من الشهر الفائت بأن «روسيا دولة كبرى ولا سبب تماماً لإبعادها عن حل القضايا الدولية، كما أنه لا توجد ذريعة للتعامل معها بطريقة معادية».
أين تقف الصين من الطرح الأوراسي؟
بلا شك تلاحظ وتقترب في هدوء، لتمتين العلاقة مع الجانب الروسي بداية، قبل الشراكات الكبرى مع الأوروبيين، وربما هذا ما بان واضحاً في برقية التهنئة التي أرسلها وزير الخارجية الصيني وانغ يي إلى نظيره الروسي سيرغي لافروف بمناسبة حلول العام الجديد.
الرسالة الصينية للجانب الروسي تؤكد أن «بكين على استعداد للتعاون مع روسيا في تنفيذ الاتفاقات التي توصل إليها قادة البلدين، لتعميق التعاون الاستراتجي على الساحة الدولية».
هل نحن أمام صورة جيوبوليتكية «لأوروبا وآسيا» مغايرة لما استقرت عليه الأحوال السياسية للقارتين في المائة عام الماضية؟
هناك جانب فكري مثير في التعاون الأوروبي – الآسيوي، حيث إعادة إحياء طرق ثقافية وتجارية وعلاقات إنسانية من الغرب إلى الشرق، وحيث جحافل من الأوروبيين، ثم عبورهم من صحارى الأجداد الآسيويين، وكذلك فلاسفة من الشرق الآسيوي عاشوا نهضة الغرب على أرضه، الأمر الذي يستلفت الانتباه إلى خطأ جوهري في رؤية هنتنغتون لتصادم حتمي بين الحضارات، لا سيما بين الصينيين والأوروبيين، أو بين الشعوب السلافية الأرثوذكسية والعالم الإسلامي، أو بين العرب والغرب.
الطرح «الأوراسي» الذي يتشكل في الرحم يؤذن بميلاد عالم غير متوقع الأقطاب… فانظر ماذا ترى؟

التعليقات معطلة.