مزج الأهداف العسكرية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية في حكومات طويلة الأمد تضع إستراتيجيات من غير المرجح أن تفشل
السياسة الخارجية التركية ملف من الضروري تبنيه من المرشح الفائز بالانتخابات الرئاسية (أ ف ب)
في المقالة الواردة أدناه نتحدث عن الخطوات الرئيسة التي يمكن اتخاذها في السياسة الخارجية التركية خلال الفترة المقبلة، إضافة إلى بعض المقترحات المتعلقة بالمسار الواجب اتباعه بغض النظر عن التحالف الذي سيصل إلى السلطة.
أولاً: تعزيز وزارة الخارجية
خلال الأعوام الـ10 الماضية كانت هناك زيادة كبيرة في البعثات الخارجية لوزارة الشؤون الخارجية التركية، بحيث ارتفع عدد المهمات إلى 253 مهمة بحسب البيانات الصادرة عام 2022، لكن في المقابل كانت الزيادة في عدد الموظفين المحترفين (الموظف المهني الذي يمكن أن يصبح سفيراً) والموظف القنصلي والمتخصص (الموظف المهني الذي يمكن أن يرتقي إلى مستوى القنصل العام) محدودة، فوفقاً لبيانات يوليو (تموز) 2021 كان عدد المحترفين 1080 وعدد القنصليين 832، فبالنظر إلى أن نحو ثلث الضباط المهنيين يعملون في المركز، حيث تستند كل بعثة في الخارج إلى مبدأ منح ما لا يقل عن شخص واحد محترف وشخص واحد متخصص، إضافة إلى رئيس بعثة واحد (السفير، الممثل الدائم، القنصل العام)، ومن الواضح أن الجهد المبذول والوقت الإضافي لموظفي الشؤون الخارجية يظهران بشكل من الأشكال.
لكن بما أن الاعتمادات محدودة قد يتسبب المستوى غير الكافي من التمثيل في أن تكون أنشطة البعثات في الخارج محدودة وليست نشطة بالقدر المطلوب في مجال الدبلوماسية، لذلك في وقت تفتخر تركيا بحقيقة أن وزارة خارجيتها لديها واحدة من أول خمس شبكات دبلوماسية كبرى في العالم، مع الأخذ في الاعتبار عدد موظفي المنظمات في الدول الخمس الكبرى الأخرى، ينبغي في الفترة المقبلة فتح امتحانات جديدة للممثلين، إلى جانب اللغة العربية أو الإنجليزية أو الألمانية، كما أنه من المهم أن يتقن الموظفون المدنيون الجدد لغة أجنبية واحدة في الأقل، خصوصاً الروسية والصينية والفارسية والفرنسية واليونانية، إضافة إلى الذين يمتلكون المهارة ليكونوا مناسبين للتمثيل والالتحاق بسرعة بمناصب الوزارة على أساس الكفاءة.
وأيضاً من المهم للتمثيل زيادة الاعتمادات قدر الإمكان من خلال النظر في إمكانات الدول المتصدرة للمراكز الخمسة الأولى، ومن جانب آخر إذا كان هناك تعيين سياسي فمن الضروري أن تكون لديه القدرة على حماية سمعة البلاد بحيث يتم التعيين السياسي للسفراء من بين أشخاص أكفاء يتمتعون بإلمام جيد بالدبلوماسية ولديهم لغة أجنبية ويمتلكون خبرة بالحياة في الخارج ومعرفة بقواعد البروتوكول الدولي.
ثانياً: العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية
الوضع الراهن في العلاقات التركية- الأميركية ليس مستداماً، فمن مصلحة البلدين خلال الفترة المقبلة تطوير حوار مفتوح وصادق بين المؤسسات من أجل تنشيط العلاقات بالوسائل شتى بما في ذلك آلية الحوار الإستراتيجي وتجاوز أزمة الثقة والخلافات بين الجانبين.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإن تركيا التي تحتل موقعاً إستراتيجياً في النظام العالمي المتغير، من المفيد لواشنطن تحديد إستراتيجية جديرة بالشراكة من شأنها أن تخفف من مخاوف تركيا وتضع العلاقات بين البلدين على المسار الصحيح، كما أنه من المفيد للولايات المتحدة اتخاذ بعض الخطوات الجديدة من أجل القضاء على التحيز المتزايد ضد تركيا.
في هذا الجانب من المهم التعامل مع شركة لوبي لا تنشط فقط في الكونغرس، وإنما أيضاً في المجالس التشريعية للولاية من خلال زيادة عدد القنصليات العامة في جميع أنحاء البلاد وبالأخص في الجانب الغربي، مع الأخذ في الاعتبار أن لكل ولاية كدولة مختلفة، إستراتيجيات سياسية واقتصادية وتجارية، وتضمن أن تعمل الجمعيات التركية في كل من واشنطن وبقية الولايات بروح التنسيق والتعاون، وتنبغي مساعدة هذه الجمعيات وفقاً للقوانين الأميركية من أجل التأثير في القرارات المتخذة على المستويين المحلي والفيدرالي عند الضرورة، كما أن اتخاذ خطوات متنوعة لشباب الشتات التركي الذين يعيشون في الولايات المتحدة مثل تشجيع وجودهم وتخصيص الأموال اللازمة لإنشاء كراسي الدراسات التركية في الجامعات المرموقة بالولايات المتحدة، بالتأكيد ستكون لها تداعيات إيجابية على العلاقات بين البلدين وستحدّ من التأثير السلبي لبعض المواقف العدائية في الولايات المتحدة.
ثالثاً: إقامة حوار متكافئ مع الاتحاد الأوروبي
على رغم أن عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي وصلت إلى طريق مسدود، إلا أن تركيا لا تزال مرشحاً تفاوضياً، كما أن الاتحاد الأوروبي لا يزال الشريك التجاري الأول لتركيا، لذلك فإن تسريع عملية الإصلاح وترسيخ الديمقراطية خلال الفترة المقبلة مثل الإصلاحات الشاملة التي نفذتها تركيا منذ مطلع العقد الأول من القرن الحالي، سيسمح لها بالجلوس على الطاولة بقوة أكبر في الحوار الذي سيبدأ مجدداً مع الاتحاد الأوروبي، بحيث ستكون واضحة الفوائد التي ستوفرها تركيا للاتحاد العالق بين الولايات المتحدة والصين والذي يحاول إيجاد مخرج، كسوق وكجسر يربطان القارات الثلاث ببعضها بعضاً في مجالات الطاقة والتجارة والثقافة، ومع ازدياد قوة تركيا في كل من المجالات الديمقراطية والعسكرية والاقتصادية، ستصبح الأصوات التي تعوق العضوية مثل اليونان وقبرص اليونانية أقل احتمالاً، كما أن هناك قضيتين مهمتين تحتاج تركيا إلى حلهما مع الاتحاد الأوروبي، وهما مسألة المهاجرين ومسألة التأشيرة لذلك تنبغي إعادة الحوار مع الاتحاد الأوروبي على وجه السرعة.
اقرأ المزيد
- الانتخابات التركية تستدعي كارثة الزلزال بـ”شكل صاخب”
- فوز لليمين في تركيا مهما كانت نتيجة الانتخابات الرئاسية
- لماذا تفضل موسكو أردوغان على أوغلو؟
رابعاً: العلاقة مع روسيا
قاتلت روسيا الدولة العثمانية مرات والعلاقات التركية- الروسية على مر التاريخ كانت بين هبوط وصعود، وعلى رغم ذلك بعد وفاة ستالين في الأعوام الأولى للجمهورية التركية كانت العلاقة مع الاتحاد السوفياتي جيدة، كما تم توقيع اتفاقات الطاقة الأولى في ثمانينيات القرن المنصرم، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، كانت دول آسيا الوسطى والقوقاز والبلقان والشرق الأوسط وحتى أفريقيا في حوار على رغم اختلافها في وجهات النظر، كما أن تركيا اليوم تعتمد على روسيا في مجال الطاقة، لذلك ينبغي في الفترة المقبلة الحفاظ على العلاقات مع روسيا على مستوى القادة والمستوى المؤسسي، كما أنه خلال الحرب الروسية- الأوكرانية أصبحت تركيا أكثر أهمية بالنسبة إلى روسيا لأنها وسيط إيجابي، وهذا مفيد لتركيا كي تحافظ على توازن علاقاتها مع روسيا.
خامساً: لا ينبغي أن تبقى تركيا بعيدة من أحداث الشرق الأوسط
لا تزال رياح التغيير التي بدأت مع “اتفاقات أبراهام” تهب على الشرق الأوسط، فبينما تحسن الدول العربية العلاقات في ما بينها، فهي أيضاً تتحرك دبلوماسياً على نحو مكثف لتكون في حوار مع إيران وإسرائيل، ومن جانب آخر أصبحت المنطقة إحدى المناطق التنافسية للقوى العظمى لأن الصين بدأت بالفعل ملء الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة، فيجب على تركيا أن تتابع كل هذه التطورات عن كثب ولا تتجاهلها، فمن المؤكد أن استقرار المنطقة ستكون له آثار إيجابية على تركيا، لكن من الضروري منع بعض الخطوات التي يمكن اتخاذها ضد أو رغم تركيا، خصوصاً في الملف السوري، وعلى رغم ذلك فإن اتباع سياسة خارجية بعيدة من الطائفية من خلال النظر في التوازنات بين العرب سيسمح بإقامة علاقات صحية ومستدامة.
سادساً: آسيا الوسطى وأذربيجان والممر الأوسط
أهمية آسيا الوسطى ازدادت، لا سيما في نظر القوى العظمى بسبب الصعود الحتمي للصين وتراجع روسيا بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا، لذلك بدأت الولايات المتحدة بالبحث عن طرق للعودة للمنطقة في محاولة لاحتواء الصين، وتركيا تمتلك روابط تاريخية وثقافية في هذه الجغرافيا، فمن المهم إسقاط قوتها وتطوير وتعميق تعاونها مع دول المنطقة ضمن آليات التعاون القائمة، كما أن الاهتمام بمبادرة الصين لطريق الحرير مع مشروع الممر الأوسط بقيادة تركيا يعززان مكانتها في المنطقة، كما تنبغي إقامة سلام دائم في القوقاز والحفاظ على العلاقات التركية- الأذربيجانية كما هي التي بنيت على كلمات الراحل حيدر علييف “دولتان أمة واحدة”، وأيضاً من المهم استمرار العلاقات بين تركيا وأرمينيا.
سابعاً: قوة الصين المتصاعدة
الصين تفهمنا وتعرفنا أكثر مما نفهمه ونعرفه عنها، فكما توجد في وزارة الخارجية التركية وحدة متخصصة في أميركا الشمالية أو روسيا أو سوريا أو العراق أو إيران أو اليونان، يجب إنشاء وحدة مماثلة للصين على الفور، وتنبغي إعادة تشكيل علاقات إستراتيجية شاملة وطويلة الأمد، ومثلما اتبعت تركيا سياسة متوازنة بين الولايات المتحدة وروسيا، يتعين عليها اتباع سياسة التوازن ذاتها بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، كما أنه من المهم تدريب دبلوماسيين متخصصين في الصين وآسيا وتشجيعهم على تعلم اللغات الآسيوية، خصوصاً الصينية.
ثامناً: قضية قبرص واليونان
قضية قبرص ومشكلات تركيا مع اليونان هي سياسة دولة، فعلى رغم بعض الفروق الدقيقة فإن موقف تركيا من القضيتين مؤسسي وفوق حزبي، وعلى رغم أن تركيا واليونان دخلتا في العملية الانتخابية خلال العام الماضي واشتدت خطابات الطرفين ضد بعضهما، إلا أنه من المفيد للتكنوقراط في البلدين استئناف محادثاتهم السابقة “الاستطلاعية” أو “التشاورية” بعد الانتخابات، وعلى السياسيين أن يركزوا على حل الخلافات من خلال الحوار بدلاً من إرسال رسائل عبر وسائل الإعلام، وبطبيعة الحال ليس من الممكن حل القضايا الخلافية القائمة منذ عقود، لكن من المهم الحفاظ على الحوار من خلال قنواته المختلفة، إذ إن لغة الحوار التي ستتبناها تركيا في كل القضايا اليونانية والقبرصية ستدحض الاتهامات اليونانية القائلة إن “تركيا طرف متصلب ومزعج” وستمنع أثينا من استخدام هذا الأمر كورقة ضد أنقرة من قبل دول ثالثة.
تاسعاً: التعاون في مجال الطاقة شرق المتوسط
أيضاً من الأمور المهمة في السياسة الخارجية يجب على تركيا العمل على مبدأ التقاسم العادل لموارد الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث اتخذت تركيا خطوات لقلب الميزان في شرق المتوسط لمصلحتها بفضل سفن البحث والتنقيب التي اشترتها خلال الأعوام الماضية، ومع تحسن علاقاتها مع الدول المشاطئة يمكن تحويل المنطقة إلى حوض تعاون وجعلها طريق العبور الرئيس لتركيا سيوفر ميزة إستراتيجية كبيرة لها.
عموماً فإن مشكلات تركيا لن تنتهي أبداً بسبب موقعها، لكن على مبدأ “السلام في العالم السلام في الوطن”، فإنها تضع مصالحها الوطنية أولاً، وتسعى جاهدة إلى الحفاظ على علاقات جيدة مع جيرانها، وتستفيد من المعرفة لدى التكنوقراط، إذ إن مزج السياسات العسكرية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية والثقافية في حكومات طويلة الأمد تضع إستراتيجيات من غير المرجح أن تفشل في السياسة الخارجية.
ملاحظة: الآراء الواردة في هذه المقالة تخص المؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لـ”اندبندنت تركية”.
نقلا عن “اندبندنت تركية”