ما الذي فعلته يا فتى…

1

 
د. لاهاي عبد الحسين
 
يبدو أنّ هذا هو لسان حال كل من غضب وعصّب وتأسى على هدف لاعب المنتخب الوطني القطري بسام الراوي في مرمى المنتخب الوطني العراقي تعبيراً عن الإنتصار للذات ورفعاً لها من جانب وتنفيساً للمشاعر السلبية التي وضعت في إطار من النزعة الدفاعية والمتطيرة من النقد والنقد الذاتي، من جانب آخر.
 
يلاحظ أنّه في الوقت الذي تلقى لاعب الفريق القطري بسام الراوي الكثير من النقد واللوم والتقريع بسبب تحقيقه هدفاً من ضربة ثابتة في مرمى المنتخب الوطني العراقي لم يوجه أحد النقد بالمقابل إلى دور حائط الصد البشري الذي تكوّن من أربع لاعبين عراقيين ومن خلفهم على الزاوية الأخرى حامي الهدف العراقي جلال حسن لفشلهم في التصدي للهدف القطري. ولم يتلق لاعب المنتخب الوطني العراقي علي عدنان المعروف بمهارته في تحقيق الأهداف من ضربة ثابتة نقداً وتقريعاً مماثلاً لفشله بإصابة المرمى القطري وهز شباكه قبل دقائق فقط من تمكن بسام من تحقيق هدفه حيث أخطأ علي التهديف وذهبت كرته خلف شباك مرمى الفريق القطري. وكان هدف بسام جاء في الدقيقة السادسة والستين من الشوط الثاني للمباراة فيما توفرت لعلي عدنان فرصة مماثلة قبل ذلك بثلاث أو أربع دقائق فقط. زدْ على ذلك، مع أنّه كان بإمكان الفريق العراقي تحقيق التعادل وحتى الفوز في الوقت المتبقي للمباراة الذي بلغ حينها أربع وعشرين دقيقة الا إنّه لم يفعل. وبقيت النتيجة على حالها مما مكنّ قطر من الفوز والتقدم إلى دور نصف النهائي وتوديع العراق للبطولة. حدث كل ذلك في المباراة الآسيوية التي جرت بين الفريقين العراقي والقطري الثلاثاء الماضي الموافق 22 كانون الثاني 2019 ضمن تصفيات آسيا لكرة القدم.
من جانب آخر إذا ما أخذت نتيجة التعادل التي حققها فريق أسود الرافدين مع الفريق الإيراني في المباراة التي جمعت بينهما في إطار تصفيات بطولة آسيا وهو الفريق الأقوى والمرشح للفوز بقوة فإنّه لا جدال على حقيقة امتلاك العراق لفريق واعد وأنّ لاعبي المنتخب الوطني العراقي من الشباب يمثلون طاقات كامنة ممتازة لتحقيق الفوز والتقدم المتسارع في قادم المنافسات. حتى ذلك الحين بدا كل شيئ على ما يرام. فقد تقابل الفريقان العراقي والقطري في مباراة رياضية يفترض أنْ تبرأ من العواطف السلبية والمتشددة. لا وجود لمواطن لا يرغب بفوز منتخب بلاده. الا إنّ ما حصل من ردود فعل متشنجة ومتعصبة قادها أشخاص من مستويات شتى في العراق على وجه الخصوص جعل النتيجة الموجعة لمحبي وأنصار المنتخب الوطني العراقي تخرج من مدار كونها لعبة رياضية تتصف بمهنية عالية وتخضع لتحكيم فوري ومباشر ومنظور ومتابعة ومراقبة من مستويات متعددة. ومن هذه إعتماد تقنية الـ “فار”، وهي المرجعية التقنية التي يتحتم أنْ يستشيرها الحكم ويعود إليها تفادياً لإحتمالات حدوث أخطاء بشرية من قبله. الغرض من هذا تخليص اللعبة من احتمالات التلاعب والإساءة لمستوى أداء المشاركين فيها. بيد أنّ الإساءة هذه المرة جاءت من بعض من جمهور الفريق العراقي ممن حملوا النتيجة أكثر مما تستحق وأدخلوها في سياقات الموقف الوطني والوفاء والشهامة والشرف وما إليها. تخلى هؤلاء عن النقد الموضوعي والحيادي وتبنوا نزعة دفاعية كانت كفيلة بدفعهم ومن ساندهم إلى دائرة التعصب والإنغلاق المحمية بشراسة العواطف الحادة لها التي صارت أشبه ما تكون بالجدار العازل وليس شريط شغاف قلوب المعجبين والمحبين. ترك معظم هؤلاء القضايا الأكثر إيلاماً وخدشاً للوطنية والسلم الأهلي من قبيل العجز الحكومي والركود السياسي والفساد المالي وإنهيار قطاع الخدمات العامة وفي مقدمتها التعليم وتزايد مستويات البطالة بين الشباب وصاروا يرفعون وينزلون راية لاعب كفوء شاب حقق فوزاً في مرمى الخصم ضمن لعبة تقوم على قواعد تنافسية متعارف عليها.
وبدلاً من توسم الشجاعة لتصفية الذات من أدران المشاعر الطائفية والمناطقية التي عبرت عن نفسها بصيغتين ساخرة وجادة في آن إعتماداً على الأطراف التي أختارت الدخول فيها فقد ألبست هذه المواقف المتعصبة ثوب الوطنية المقدس. إنتقل المجتمع بفضل هذه الموجة الطارئة من فصل المظلومية للشيعة والتهميش والإقصاء للسنّة إلى التمييز بين ما هو وطني وغير وطني من خلال إستهداف جماعة ذات سمات محددة ومعممة ومعروفة وبطريقة غاية في التبسيط متخذين من حالة فردية معزولة وبريئة تمام البراءة سنداً لهم. لم تنطلق هذه الموجة لحسن الحظ من أوساط شعبية عامة وواسعة ولم تجد من يتبناها سياسياً، على الأقل، بصورة علنية، ولم تأخذ بعداً دينياً ولكنّها عبرت عن نفسها بصيغة منشورات وجدالات حامية عبر وسائل التواصل الاجتماعي بين أشخاص كان فيهم الموظف والطالب أو حامل الشهادة العليا أو الإعلامي وحتى الرياضي. موجة أشر إنطلاقها فشل الجهود المبذولة حتى اللحظة لرفع مستوى الوعي الاجتماعي العميق بشأن الموقف من رثاثة المشاعر الطائفية والمناطقية المنغلقة على ذاتها. من السهل أنْ تصبح خطيباً أو متكلماً عما هو شائع ومقبول لتصبح الوطنية بديلاً مقنعاً للقومية ولتحل المذهبية محل الدينية كتعديل مناسب. إلا أنّ هذا لا يمنع من تحدي واقع الحال في عالم ينتشر فيه ما يسميه الفيلسوف الفرنسي أوليفييه روا في كتابه “الجهل المقدس”، الخروج على المسلمات السائدة حتى من قبل الأديان القديمة العريقة من حدودها القومية لتتحرر من أسارها وتنتشر في عوالم مختلفة إختلافات ثقافية واسعة وتتأثر تبعاً لذلك بمتطلبات الجماعات التي إنساقت إليها وأختارت التسليم لها. عالم لم يعد فيه المسلمون من العرب فحسب بل صار منهم أميركيون وأوروبيون وأفارقة. وكذا الحال بالمسيحية التي أخترقت القارة الأفريقية وحتى اليهودية التي ظهرت فيها جماعات سوداء تدعي الأسبقية إلى الإيمان فيها. وهذا ما يجعل الإنغلاق والتعصب منافياً للسائد والمقبول. فكيف بلعبة رياضية هي الأكثر شعبية في العالم اليوم. لعبة تصنع قواعدها ومقاييسها ليتبعها جمهورها وليس العكس. كرة القدم مثلها مثل الفنون والفعاليات الأخرى كالغناء والموسيقى والتمثيل والمسرح والرسم والنحت والكتابة والبحث العلمي ميادين يتطلب من المشتغلين فيها المراس والتدريب والدأب المتواصل. وكذلك الحال فيما يتعلق بالموقف الأدبي والأخلاقي منها مما يتطلب ممارسة الكثير من تهذيب الذات والإرتفاع بها.
تفخر الأمم بإنجازات أبنائها لتحتفظ بهم أصدقاءاً ومحبين لا خصوماً وأعداء. وأزدهرت لذلك صنعة الإحتراف على مستوى لعبة كرة القدم وغيرها من الميادين لتقول إنّ هذا منّا وإلينا. فتلك الراحلة زها حديد التي ولدت في الموصل وتلقت تعليمها الإبتدائي فيها قبل أنْ تنتقل إلى بغداد لتواصل تعليمها الثانوي وتنتقل بعد ذلك للإقامة في بريطانيا بصورة دائمة تقدم نفسها على أنّها بريطانية من أصل عراقي. ولم يتوان العراقيون عن تذكرها والإشارة إليها كعلامة عراقية أصيلة ورمزاً على نجاحهم وتفوقهم وحسن تكيفهم في بيئات ثقافية مغايرة. وتفاخر ألمانيا بألبرت آينشتاين رغم أنّه غادرها قسراً رفقة عائلته إلى الولايات المتحدة الأمريكية هرباً من الحكم النازي العنصري المناهض لليهود وغيرهم من الجماعات التي لا تتوافق مع توجهاته القومية ذات الطبيعة الشمولية. وهناك المئات بل وآلاف الأمثلة التي يمكن أنْ تعطى لمواطنين شقوا طريقهم في بلدان متنوعة ولكنّهم بقوا معززين مكرمين من قبل أبناء جلدتهم. لم يقل جزائري للاعب المنتخب الفرنسي زين الدين زيدان الجزائري الأصل أنّك تلعب لصالح فرنسا التي يحمل جنسيتها بإعتبارها دولة استعمارية مارست أسوأ وأقسى أنماط الإستعمار وهو الإستعمار الثقافي الذي سعت من خلاله إلى إلغاء الهوية العربية الإسلامية للجزائريين وعملت على تحويلهم إلى عبيد تحرروا منها بشق الأنفس وبعد أنْ أتخموا بالعنف والتضحيات الجمة على مدى عقد من الزمان في الحرب من أجل الإستقلال. أما الفريق القطري فيتحدر عشرة من لاعبيه من أصل أحد عشر لاعباً من أصول غير قطرية وليس بسام الراوي فقط. لم يحدث مع أي من هؤلاء ما حدث مع بسام.
يتابع الجمهور الرياضي في العراق عدداً من الدوريات في العالم لعل من أكثرها شعبية الدوري الأسباني الذي يتقدمه الفريق الملكي وفريق برشلونة. لم يتابع الجمهور الرياضي العراقي هذين الفريقين إنطلاقاً من تحيزاته الدينية والمذهبية والعشائرية والمناطقية والعرقية وحتى الثقافية. بل تابعهما وفق المقاييس التي يضعانها وتفاعل معهما لذاتهما وليس لذاته معبراً عن الإعجاب بهذا الفريق أو ذاك بحسب مستوى الأداء والتميز الذي يبديانه أثناء اللعب وخوض المباريات. سيتطلب تحرير الذات من مشاعر التعصب والعصبية والإنغلاق بذل الكثير من الجهد من خلال الممارسة والتمرين المتواصل ذهنياً وفكرياً وأدبياً بما لا يقل دأباً ومطاولة عما يفعله أعضاء أي فريق كرة قدم في العراق أو غيره في ساحات اللعب لتحقيق اللياقة البدنية المطلوبة.

التعليقات معطلة.