بقلم : د. عصام نعمان
«داعش» لم يخرج من سورية بعد. لا مصلحة لأميركا ولا لتركيا بإخراجه منها. سيبقى فيها بشكل أو بآخر لغاية استنفاد الغرض من استبقائه. أميركا تريده ذريعة لبقائها في شرق سورية، التنف وجوارها، وفي شمالها الشرقي، محافظات دير الزور والرقة والحسكة. تركيا تريده ذريعة لبقائها في شمال سورية الغربي، عفرين وجوارها، وفي شمال سورية على امتداد حدودها معها. لماذا؟
لأنّ لكلٍّ منهما مخططاً ومطامع فيها. لأميركا جملة أغراض، أهمّها:
ـ تموضع قوات غير سورية، بل معادية لسورية، في مواقع حاكمة على حدودها الشرقية للحؤول دون تواصلها جغرافياً وتحالفها عسكرياً مع العراق وإيران.
ـ الضغط على سورية وحلفائها للحؤول دون إقامة قواعد عسكرية لإيران في سورية عموماً، وفي جنوبها القريب من «إسرائيل» خصوصاً.
ـ تعزيز المركز التفاوضي للقوى والأطراف المتنازعة مع حكومة دمشق بغية تعزيز مشاركتها من مركز قوة في أيّ مفاوضات تجري لتقرير مسار سورية بعد الحرب، ولعرقلة استعادة وحدتها الجغرافية والسياسية، ولإفساح المجال أمام بعض المكوّنات الاثنية والمذهبية لإقامة كيانات خاصة بها أو، أقلّه، منحها قدْراً كبيراً من الحكم الذاتي.
لتركيا أغراضها أيضاً:
ـ القضاء على كلّ وجود مسلّح لتنظيمات كردية متعاونة مع حزب العمال الكردستاني التركي ذي النزعة الانفصالية.
ـ الحؤول دون إقامة كيان كردي سوري مستقلّ في شمال سورية وشرقها، وعرقلة إقامة حكم ذاتي للكُرد السوريين وذلك لتفادي انتقال العدوى الى الكرد الأتراك.
ـ إقامة مواقع عسكرية تركية في شمال سورية بذريعة حماية الأمن القومي التركي من الكُرد الساعين الى الانفصال.
سورية ترفض كلّ هذه الادّعاءات والمطامع الأميركية والتركية. حكومتها تصرّ على استعادة كلّ المناطق الخارجة عن سلطتها وسيادتها. لذا تعتبر كلّ قوات غير سورية موجودة على أرضها من دون إذن منها قوات محتلة. الى ذلك، تعتقد سورية، حكومةً وشعباً، انّ اية قوات محتلة، خاصةً اذا كانت أميركية، هي مجرد أدوات لمخطط قديم جديد لتقسيم سورية وتفكيكها جمهوريات موز متناحرة، وانّ المستفيد الاول منه هو «إسرائيل».
اذا كان «داعش» طرفاً غير سوري، فإنّ ثمة أطرافاً سوريين ضالعون ومشاركون في المخطط التقسيمي المشار اليه. ما يُسمى «قوات سورية الديمقراطية قسد» تنظيم سياسي وعسكري ذو نزعة انفصالية وهو مموّل ومسلّح من أميركا ومتعاون معها. «الجيش السوري الحر» تنظيم عسكري مموّل ومسلّح من تركيا وأداة بيدها. «جيش الإسلام» مموّل ومسلح من السعودية وخاضع لتعليماتها. الى ذلك، ثمة تنظيمات مسلحة صغيرة ناشطة في جنوب سورية الغربي مموّلة ومسلّحة من «إسرائيل» ومتعاونة معها.
بعد نجاح الجيش السوري في استعادة الكثير من بلدات وقرى في أرياف حمص وحماة وحلب واتجاهه الى تحرير محافظة إدلب من «هيئة تحرير الشام» «النصرة» سابقاً ، وبعد نجاح روسيا في جمع ممثلين لمختلف أطياف سورية للحوار في مؤتمر سوتشي، قامت أميركا وتركيا و»إسرائيل» في المناطق السورية التي لها فيها قوات نظامية أو قوات حليفة او رديفة بعمليات مؤذية لعرقلة جهود سورية من أجل استعادة وحدتها وسيادتها.
أبرز هذه العمليات إسقاط طائرة سوخوي روسية في إدلب بصاروخ جوّي متطوّر محمول على الكتف من صنع أميركا أعلنت «هيئة تحرير الشام» مسؤوليتها عنه، ثم قيام تركيا بمهاجمة منطقة عفرين لإنهاء سيطرة «قوات حماية الشعب» الكردية عليها، وأخيراً قيام طائرات «التحالف الدولي» الأميركية بقصف قوات رديفة للجيش السوري كانت تقوم بمهام استطلاعية في منطقتي المدينة الصناعية وخشام النفطية شرق نهر الفرات في محافظة دير الزور. بالتزامن مع هذه الاعتداءات تحركت عناصر «جيش الإسلام» و»النصرة» في غوطة دمشق الشرقية وأمطرت دمشق بوابل من الصواريخ والقنابل ذهب ضحيتها عديد من الشهداء والجرحى المدنيين، ومثلها فعلت التنظيمات المتعاونة مع «إسرائيل» في جنوب غرب سورية.
بات واضحاً انّ أميركا، والى حدّ ما تركيا، شنّت هجمات مؤذية لسورية، كلّ من جهته ولأغراضٍ خاصة به. المشكلة أنّ هذه الهجمات تتمّ في مناطق توجد فيها قوات نظامية سورية كشمال البلاد، أو قوات روسية في شرق دير الزور وإدلب. لم يحدث حتى الآن ايّ صدام عسكري مباشر بين القوات الأميركية والتركية من جهة والقوات السورية والروسية من جهة أخرى. لكن تجاور القوات الروسية والقوات السورية في الكثير من المناطق والمواقع يجعل احتمال الصدام مع القوات الأميركية محتملاً.
ما العمل لتفادي تطوّر الحرب في سورية وعليها من حربٍ بالوكالة بين لاعبين إقليميين الى حربٍ ساخنة محدودة بين أميركا وروسيا؟
ثمة خطر جديّ وماثل. خبراء استراتيجيون يعتقدون انّ إدارة ترامب ربما ترمي في استراتيجتها الهجومية الجديدة الى استنزاف روسيا في سورية على غرار عملية استنزاف أميركا في أفغانستان. ربما تظّن أنها بذلك تُكره روسيا على حمل سورية على الإذعان في المفاوضات المقبلة لمخططها الرامي الى فكّ تحالفها مع إيران وقوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية وبالتالي القبول بنظام سياسي تعدّدي لامركزي يتيح للكرد السوريين حكماً ذاتياً في شمال شرق البلاد.
موسكو لا تماشي سياسة واشنطن الهجومية في سورية وإنْ كانت حريصة على مداراتها لتفادي الاشتباك معها. لكن هذه المداراة لا تضمن ردع أميركا، ومن ورائها «إسرائيل»، ودفعها للتراجع عن مسارها العدواني المتصاعد.
ما العمل اذاً؟
لعلّ السبيل الأفعل يكون بانتهاج روسيا مقاربة جريئة لمسألة الكُرد السوريين والعراقيين غايتها إخراجهم من قبضة الأميركيين. كيف؟ بالتعاون مع إيران للضغط على تركيا بغية التخلي عن سياستها العقيمة القائمة على محاربة الكرد السوريين بمعزل عن سورية بل على نحوٍ معادٍ لها، وبالتشديد على أولوية المصالح المشتركة بين البلدين الجارين، ووجوب مجابهة أعدائهما المشتركين سويةً، وبأنّ شرط الخروج من هذه الحال المضطربة والمؤذية لكلتيهما انما يكون بتغليب المصالح المشتركة على الأغراض، بل على الأوهام المكلفة والمتصادمة مع الواقع. ذلك يتحقق بالتوافق على خطوط عريضة للخروج من الصراع اللامجدي على النحو الآتي:
أولاً: وقف النار في كلّ أنحاء سورية والذهاب بلا إبطاء الى مؤتمر جنيف للتحاور والتوافق على تسوية سياسية متوازنة للصراع بالتزامن مع مباشرة سحب القوات الأجنبية منها.
ثانياً: توافق سورية وتركيا، برعاية إيران وروسيا، على أولوية استعادة سورية وحدتها وسيادتها على كامل ترابها الوطني، واتفاق البلدين على تحصين وحدة أراضيهما الجغرافية والسياسية وعدم المساس بها من طرف أيٍّ منهما.
ثالثاً: توافق سورية وتركيا، برعاية إيران وروسيا، على منح الكُرد السوريين الحق في الإفادة من نظام إدارة ذاتية محلية يجري اعتمادها في إطار دولة مركزية مدنية ديمقراطية، وذلك على أساس المساواة بين السوريين جميعاً في المواطنة والحقوق والواجبات والعدالة والتنمية.
رابعاً: يكون للسوريين وحدهم حق تقرير مضمون النظام السياسي الذي يريدونه لبلادهم على أن يتمّ ذلك دونما تدخل خارجي وبرعاية الأمم المتحدة.
خامساً: انسحاب جميع القوات الأجنبية، ولا سيما تلك التي لم تأذن سورية بوجودها على ترابها الوطني، وذلك قبل مباشرة تنفيذ أحكام التسوية السياسية المتفق عليها في مفاوضات جنيف.
هل ثمة مقاربة أفضل وأفعل لإخراج كُرد سورية، كما بعض عربها، من قبضة أميركا ومن ورائها «إسرائيل»؟