عبداللطيف مهنا
عند صياغة قرارات المجلس كان جوهر ما تقدَّم هو السقف الذي لم يتم تجاوزه. مثلا، الكلام عن تعليق الاعتراف بكيان الاحتلال لا إلغائه، والمحال إلى اللجنة التنفيذية، وحيث لها حق تنفيذه عندما ترى الوقت المناسب لذلك، إن هي نفَّذت، هو وفق الأستاذ والمرجع في القانون الدولي الفلسطيني المعروف، الدكتور أنيس القاسم، “نظري لا قيمة قانونية له، ذلك أن الاعتراف عندما يصدر لا يمكن سحبه”.
مستندةً إلى ما دعته تقارير للمؤسسة الأمنية الاحتلالية، علّقت صحيفة “معاريف” على نتائج اجتماع المجلس المركزي في رام الله فقالت، إن “شحنة الإحباط كانت مضبوطة، فعباس لن يكسر الأواني، وحافظ على قواعد اللعبة، وفي نهاية الأمر لم يؤدِ كلامه إلى شيء ملموس”… المستوى السياسي الاحتلالي، وقياداته غالبا تنتج في المؤسسة الأمنية وتأتي منها، هو أول من يستلم هذه التقارير ويحجبها أو يوعز بتسريبها، وعلى أساسها بالطبع يرسم خطوات سياساته المتعلقة، وإن هو إعلاميا ودبلوماسيا لا يتقيد بها في سياق موالاته لحملات تحطيم كل الأواني المتبقية لأبي مازن، لكنما قصارى القول هنا هو إن كلا المستويين الاحتلاليين، الأمني والسياسي، ينطلقان من خلاصة تقييمهما الذي عبَّر عنه مقال للصحفي بن كاسبيت، المقرَّب للمؤسسة الأمنية، والقائل، “لقد كرر أبو مازن طوال خطابه مواقفه القديمة، ومعارضته للإرهاب”…الإرهاب هنا في المفهوم الاحتلالي هو المقاومة المسلَّحة للاحتلال…كيف؟
للإجابة لا بد من الإشارة إلى ما استدعى الانعقاد الطارئ للمجلس المركزي وخروجه من ثم بما تضمّنه بيانه الختامي، وهي القرارات والخطوات الأميركية المنطلقة من المراد احتلاليا في هذه المرحلة للإجهاز التصفوي على القضية الفلسطينية وتسريعه، التي من شأنها إخراج القدس، واللاجئين، والحدود، من ملف المفاوضات المفترضة تسوويا، وشطب “حل الدولتين”، أو المشجب الذي لطالما عُلّقت عليه الأوهام التسووية، وخنق السلطة بقطع المساعدات عنها، وأخيرا قرار الليكود بضم الضفة رسميا لكيان الاحتلال استنادا إلى هذه الخطوات، تلكم التي حفَّزتها وسهّلتها سانحة انحدار الحالة العربية وراهن الموازين الدولية… الحالة العربية المنتقلة من العجز إلى التواطؤ التسووي ومنه للضغط التصفوي، والذي لا يكتم الأميركان والمحتلون تعويلهم عليه، أما الدولية فتبدت في محبط حصاد الجولات الفلسطينية على عواصم الغرب والشرق بحثاُ عن بديل عزَّ، وحتى شريك، للأميركي المحتكر للتسوية ووفق الرؤية الاحتلالية لها.
وعودة لسؤالنا، في خطابه الذي حدد السقف الفعلي لمخرجات اجتماع المجلس المركزي، إذا ما وضعنا جانبا السقف العالي لنبرتها وصياغتها المواربة المدغدغة للعواطف والحمالة الأوجه، ومسألة تنفيذها حيث المرجَّح أنها ليست بالأوفر حظا من قرارات اجتماع سابق عاد الأخير فكررها، ونبدأ بما استخلصه أبو مازن أخيرا وأبلغه للمؤتمرين، وهو، إن “إسرائيل أنهت اتفاقية أوسلو”، وإن السلطة “أصبحت بلا سلطة تحت احتلال بلا تكلفة”، ونحن “لا نريد صفقة العصر ولا الظهر”… إذن، وماذا بعد؟!
إن ما استدعى دعوة المجلس المركزي، أميركيا وعربيا واحتلاليا، وأشرنا إليه، ومنه ما استخلصه أبومازن، يعني، وبكل بساطة، نعيا للتسوية واستعجالا للتصفية، وها هي الكرة الآن في ملعب أبي مازن فكيف سيردها؟! ليس بإمكاننا، ومن أسف، أن نستخلص من حملة أبو مازن الغاضب على ترامب غير ما استخلصه بن كاسبيت في “معاريف”. في رده على اتهام ترامب للفلسطينيين برفض المفاوضات، قال: “يخرب بيتك، من متى رفضنا المفاوضات، وأنا جاهز للصفقة التي بان أنها صفعة..هذا عيب”. وفي رده على اتهامه للفلسطينيين بالإرهاب، قال: “يخرب بيتك، نحن وإيَّاكم نحارب الإرهاب، ونحن مع ثقافة السلام”، وعليه، “لن نقبل أميركا وحدها وسيطا بيننا وبين إسرائيل بعد الذي فعلوه”.
هذا يعني أن لا عودة بالنسبة إليه عن خيار المفاوضات، بغض النظر عن نتائج هذا الخيار وما أوصلت إليه ومآلاته المقروءة سلفا، كما ولا من تخلٍ، والحالة هذه، عن الأميركي “الوسيط غير النزيه”، لأن المحتلين لن يقبلوا بسواه وسيطا، وإنما محاولة التخلي عن وساطته منفردا، وعليه، فالمطلوب الآن، أما وقد انتفى وجود من ينافسه، البحث عن شركاء له في الوساطة إن أمكن.. وهذا ما أكده وزير خارجية السلطة رياض المالكي بعد انفضاض المجلس المركزي وصدور بيانه عالي النبرة.. زد عليه، عاد أبومازن للتأكيد على ما لم يحد عنه يوما ولم يفارق قناعاته عبر تاريخه، وهو رفضه المطلق للمقاومة المسلَّحة، واستبدالها “بالشعبية”، والتي هي عنده لا تعدو المقاومة الاحتجاجية، كتلك التي تجري أحيانا بمشاركة ناشطين أجانب على الطريقة البلعينية المعروفة.. قال جازما: “لست إلا مع هذه المقاومة، ولن أخجل من تكرار ذلك”.
عند صياغة قرارات المجلس كان جوهر ما تقدَّم هو السقف الذي لم يتم تجاوزه. مثلا، الكلام عن تعليق الاعتراف بكيان الاحتلال لا إلغائه، والمحال إلى اللجنة التنفيذية، وحيث لها حق تنفيذه عندما ترى الوقت المناسب لذلك، إن هي نفَّذت، هو وفق الأستاذ والمرجع في القانون الدولي الفلسطيني المعروف، الدكتور أنيس القاسم، “نظري لا قيمة قانونية له، ذلك أن الاعتراف عندما يصدر لا يمكن سحبه”. أما وقف “التنسيق الأمني” مع المحتلين فهذه المرة الثانية التي يقرر المجلس وقفه، ولكنه لم يتوقف سابقا ولن يتوقف الآن، ومن لديه شك فليراجع تصريحات محافظ نابلس لإعلام الاحتلال إثر وقوع عملية قرية تل الفدائية الأخيرة في محافظته. أما الهروب لملاذات التدويل واللجوء للأمم المتحدة فلازمة تكرر التلويح بها منذ العام 2011، وفي تعثُّر حظوظ عملية البحث عن الوسيط البديل، وتجارب ثلاثة أرباع قرن مع الأمم المتحدة، خير دليل على مآلات مثل هذا الهروب.