“أوّل وأهمّ وأشمل فعلِ حُكمٍ على رجل الدولة والقائد أن يؤسّساه… هو نوع الحرب التي يخوضانها”. لو أراد المنظّر العسكريّ البروسيّ كارل فون كلاوزفيتز تقييم أداء الضربات العسكريّة الأميركيّة على وكلاء إيران في المنطقة بناء على نصيحته، لما خرج على الأرجح بتقييم إيجابيّ.
صحيحٌ أنّ الرئيس الأميركيّ جو بايدن لا يخوض حرباً مع إيران، ولا يريدها. وهو لا يخوض حرباً حتى مع وكلائها. هو يهدف إلى الانتقام لمقتل جنوده الثلاثة في الأردن من أجل منع الميليشيات من استهداف قوّاته مجدّداً. المسعى الوحيد في هذا الإطار ردعيّ فقط. لكنّ الردع، كالحروب، يستلزم استراتيجيّة، وهي الحاضر الغائب في العلاقة الأميركيّة مع الشرق الأوسط عموماً وإيران خصوصاً.
ما نظرة إدارة بايدن إلى الشرق الأوسط؟
الإجابة غير سهلة وتتنوّع باختلاف المراحل. في أيلول (سبتمبر) 2023، قسّم “معهد الشرق الأوسط” الرؤية الأميركيّة للمنطقة إلى ثلاث مراحل؛ الأولى (كانون الثاني 2021، حزيران 2022) قضت بإعادة التوازن نحو مناطق أخرى. اعتمدت الثانية (حزيران حتى ربيع 2023) على إعادة الانخراط المحدود على المستوى الاستراتيجيّ، أمّا الثالثة (أيار حتى أيلول الماضي) ففعّلت استراتيجيّة أكثر استباقيّة.
خلال قمّة جدّة في تمّوز (يوليو) 2022، وعد الرئيس الأميركيّ القادة العرب بأنّ الولايات المتّحدة لن تغادر المنطقة وتتركها لإيران وروسيا والصين. بعد عام ونصف تقريباً، تنقل مجلّة “فورين بوليسي” عن مصادر في الإدارة قولها إنّها تفكّر جدّيّاً بمغادرة سوريا. ليس هذا بالضبط أوّل ما تبادر إلى أذهان من سمع كلام بايدن في حينه.
ربّما للإدارة أسبابها للتفكير بهذه الخطوة. مهمّتها أُنجِزت في سوريا والمخاطر المترتّبة على البقاء هناك أعلى من المكاسب المرتجاة. غير أنّ مثل هذه الأسباب دفعت إدارة أوباما إلى الانسحاب من العراق سنة 2011 من دون ترك قوّة عسكريّة ضئيلة لحفظ الاستقرار. تداعيات تلك الخطوة لا تزال منطبعة في الذاكرة الحديثة. وإذا كان يستحيل قبل 13 عاماً تصوّر ولادة مجموعة أكثر إرهاباً من “القاعدة” كـ”داعش”، فالأمر مختلف اليوم. تقرير “فورين بوليسي” نفسه أشار إلى استعادة التنظيم زخماً كبيراً في سوريا، إلى درجة أنّه تحدّث عن فرض داعش خوّات على بعض المواطنين. وبعد التجربة المريرة لانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان سنة 2021، ما من ضمانة بأن يكون الانسحاب من سوريا أكثر تنظيماً بكثير.
إيران تتمتّع باليد العليا
بالحديث عن الانسحاب من أفغانستان، أخلى بايدن حينذاك الوجود الأميركيّ من بلاد تحدُّ إيران شرقاً معطياً إيّاها متنفّساً اشتدّت الحاجة إليه. اليوم، يعني أيّ انسحاب أميركيّ من سوريا متنفّساً إضافيّاً لطهران في منطقة أكثر أهمّيّة بالنسبة إليها، حيث “الجسر البرّيّ” الذي يربطها بالبحر المتوسّط. ليس هذا وحسب.
ستصبح القوّات الأميركيّة الباقية في العراق عرضة للهجوم من الداخل العراقيّ كما من الداخل السوريّ. في السياق نفسه، إن كان التفكير بالانسحاب من سوريا وارداً فعلاً فقد يصبح تفكير مماثل بالانسحاب من العراق أمراً معقولاً في مرحلة لاحقة. حتى في حال عدم صحّة نبأ البحث الأميركيّ في مغادرة سوريا، يبقى الغموض السائد في واشنطن تجاه الشرق الأوسط عاملاً مساعداً لإيران، حيث الشعور بضعف أميركيّ تجاه الالتزام بالمنطقة أمر طاغٍ. يفسّر ذلك جزئيّاً سبب تزايد هجمات وكلاء إيران على المصالح الأميركيّة في الشرق الأوسط.
ربّما لا تريد طهران إسقاط قتلى بين الأميركيّين، لكنّها بالتأكيد تسعى إلى دفع واشنطن للرحيل عبر زيادة الضغط العسكريّ على قواعدها. لو أصدرت إدارة بايدن منذ البداية إشارات غير ملتبسة تجاه تمسّكها الثابت بالمنطقة لتقلّصت احتمالات تعرّض قوّاتها للهجمات المتكرّرة. إذاً المشكلة الأولى التي تواجهها الإدارة لا تتحدّد فقط باختيار حجم وطريقة الردّ على هذه الهجمات، وهما إشكاليّان إلى حدّ كبير، بل أيضاً في غياب استراتيجيّتها تجاه الشرق الأوسط أو على الأقلّ في التمكّن من إيصال صورة واضحة عنها.
تدرك إيران أنّ تفضيل واشنطن كان وسيظلّ تقليص الاستثمارات الأمنيّة والسياسيّة في الشرق الأوسط لمصلحة التركيز على مناطق أخرى، ولم تفعل الولايات المتّحدة الكثير لتغيير هذا التصوّر. لا ينعكس هذا التردّد على نظرة الإيرانيّين إلى صلابة الموقف الأميركيّ وحسب. بمجرّد إعلان عدد من الدول الغربيّة رفضها الإفصاح عن مشاركتها في تحالف “حارس الازدهار”، كان واضحاً أنّ تلك الدول تفتقر إلى الثقة الكبيرة بعزم الولايات المتحدة على الدفاع عنها في حال تعرّضت لهجوم من الحوثيّين. وتوضّح أكثر هذا الغموض الأميركيّ في عدد المرّات التي بدّلت واشنطن حجم علاقاتها مع المنطقة.
مفارقة صارخة
اللافت للنظر أنّه حتى على مستوى السياسة “المبادِرة” التي اعتمدتها واشنطن حيال المنطقة أواسط السنة الماضية، استند القرار الأميركيّ إلى ردّ فعل ضدّ الاختراقات الصينيّة في الشرق الأوسط وأهمّها الوساطة بين المملكة العربيّة السعوديّة وإيران.
بنتيجة كلّ هذا الالتباس في السياسة الأميركيّة الشرق أوسطيّة، يصبح التحذير من فقدان رؤية أميركيّة موسّعة للمنطقة أمراً شبه اعتياديّ في التحليلات الغربيّة. في حديث إلى شبكة “أي بي سي“، قال المحلّل البارز في مؤسّسة “كارنيغي” أرون ديفيد ميلر “إنّ لدينا مشكلة استراتيجيّة مع إيران لكن ينقصنا حلّ استراتيجيّ”.
من جهته، كتب الديبلوماسيّ الأسبق والباحث في “مركز ناشونال إنترست” كريستشن ويتون “أنّنا في حرب من دون استراتيجيّة أو تفسير”، وحتى من دون “استراتيجيّة لإحباط إيران” التي لا تزال تستفيد من عدم تنفيذ العقوبات عليها بشدّة. وكانت مساهمة بايدن في إثراء طهران علامة استفهام كبيرة لمراقبين آخرين، من بينهم الكاتب في شبكة “بلومبرغ” خافيير بْلاس الذي قدّر، بشكل محافِظ، استفادة إيران من سياسة بايدن بـ15 مليار دولار خلال السنة الماضية وحدها. لهذا السبب، عنون مقالته بمفارقة صارخة: “أميركا تدعم قتال إيران ضدّ أميركا”.
“أخطاء بأخطاء”
يمكن افتراض أنّ سبب عدم تنفيذ العقوبات إيمان الإدارة الراسخ بإمكانيّة إعادة إحياء الاتفاق النوويّ. تركت الإدارة نفسها معلّقة بحبال اتّفاق فُرّغ من مضمونه، وهو مضمون مشكوك أساساً بصلابته، ممّا منعها من صياغة رؤية متماسكة تجاهها. فالإدارة تتعامل مع إيران كدولة “في منزلة بين منزلتين”: لا هي دولة مارقة ولا هي دولة موثوق بها. فطالما أنّ بايدن يربط نظرته إلى تلك الدولة بالاستناد بشكل جوهريّ إلى موقفها من الاتّفاق النوويّ، من المنطقيّ توقّع أن تنتظر واشنطن وقتاً طويلاً كي تحسم خيارها. والمشكلة أنّ الوقت ليس إلى جانبها. فقدرتها على استدامة ضربات مكلفة ضدّ أصول غير حيويّة ومراكز شبه فارغة في المنطقة محدودة، كما أنّها ليست في وارد المخاطرة بتعريض المزيد من القوّات الأميركيّة للقتل إذا استمرّت الحلقة نفسها من الاستهداف والاستهداف المضادّ – وهي ستستمرّ.
ليس أنّ صياغة استراتيجيّة واضحة أمر سهل في عالم متقلّب وسريع الاشتعال. لكنّ تردّد واشنطن غير ملحوظ تجاه إيران وحسب بل أيضاً تجاه دعم شريكتها الأوكرانيّة، حتى قبل العرقلة الأخيرة للجمهوريّين في الكونغرس. على الأرجح، يبالغ ويتون، الديبلوماسيّ الأسبق، حين يكتب أنّ بايدن “يقاتل المعارك الخطأ مع الأعداء الخطأ في الأماكن الخطأ بالجيش الخطأ”. لكن مع شنّ حلقة خجولة من الضربات الانتقاميّة المتفرّقة، ومع تبديل الإدارة نظرتها إلى الشرق الأوسط نحو أربع مرّات في أربعة أعوام، تصبح المبالغات أمراً بالغة الدلالة إلى افتقاد التجانس الأميركيّ تجاه إحدى أكثر المناطق حساسيّة حول العالم.