أ.د. محمد الدعمي
حتى إعلامنا لا يمكن أن يضاهي أو ينافس الإعلام الغربي لأن هدفه النهائي والرئيسي هو أن يحاكي الإعلام الأجنبي. وتنطبق هذه الحال على كل مفاصل حياتنا العربية الإسلامية المعاصرة، للأسف.
حري بنا في مجتمعات الشرق العربي الإسلامي اليوم أن نخص حضارتنا وثقافتنا المعاصرة بالرصد والنقد الذاتي. هذا النوع من النقد مهم للغاية، إذا ما كان بنّاءً وليس تخريبيا؛ وذلك بهدف تغذية روح المبادرة والمبادأة الحضارية على نحو يمنح ثقافتنا نكهة خاصة بها، أي شخصية يمكن أن توصف بأنها عربية أو إسلامية على نحو لا يقبل الخطأ أو السهو. بيد أن الذي يحدث في عالمنا العربي الإسلامي الآن أمر مؤسف، إذ يمر دون رقابة كافية من أية جهة مسؤولة، إذ تترك الظواهر السلبية والمظاهر المعيبة طافية أمام الجمهور على سطح الثقافة الشائعة دون تدخلات أو مداخلات فكرية بناءة.
عندما تشبثنا بالمثل المشهور الذي يفيد بأن “المحاكاة إنما هي سر التعلم”، فإننا لم نكن على خطأ، خاصة في عصور النهضة العربية الإسلامية الحديثة المبكرة، حيث لم نكن نمتلك، بعد مرور قرون قوامها الغزوات والاستلاب الأجنبي، ما يكفي من الأسس للبناء عليها، أو للتيقن منها في خضم تردٍّ ونكوص حضاريين ما زالا فاعلين في العديد من أقاليم الشرق الأوسط العربي الإسلامي. لهذه الأسباب، لم يظهر ثمة اعتراض على “الانغماس” على نحو مبكر في النموذج الغربي بديلا عن “الانكماش” السالب، باعتبار الضرورات التاريخية وحاجات الثقافة العربية الإسلامية لخطوط دلالة ولعوامل حث باتجاه البدايات الجديدة. وهكذا ظهرت أولى الجمعيات والأحزاب السياسية التي قامت على استمراء محاكاة الفكر الأوروبي على نحو متعامٍ على أيدي الأجيال الأولى للنهضة، ابتداءً بأبرز شواخصها، أي من رفاعة رافع الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني وخير الدين التونسي، وانتهاءً بمؤسسي الأحزاب السياسية الفاعلة اليوم. لذا لا يخفق أي دارس فطن لأفكار هذه الأحزاب في استمكان حقيقة لا غبار عليها، وهي أن آيديولوجيات هذه الحركات والجمعيات والأحزاب إنما كانت محاكاة لمثيلات ومكافئات لها كانت قد برزت في أوروبا القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ابتداء من جمعية “العربية الفتاة” (على خطى جمعية تركيا الفتاة)، وانتهاء بأبرز الحركات السياسية الفاعلة اليوم عبر العالم العربي الآن.
ولكن تواصلا مع مبدأ ضرورة قبول المحاكاة، كبداية وليس كنهاية بحد ذاتها، برزت ظاهرة اتباع الحكومات والإدارات السياسية تقليدا ببغائيا متعاميا لنماذج الحكومات الأوروبية، خاصة بعد أن نالت العديد من دول عالمنا هذا استقلالها السياسي. ولأن المحاكاة بقيت صيغة مقبولة على أساس إيجاد موطئ قدم للعرب وللمسلمين في فضاء العالم الحديث، لم يجرِ الاعتراض عليها كظاهرة، ولم ينبت أحد ببنت شفة ضد تتبع خطى الآخر، الغريب، أي الآري، المسيحي إلى نهاية المطاف. ثم ما لبثت المحاكاة وأن طالت كل شيء في حياتنا العربية الإسلامية، حتى صارت “مدرسة المحاكاة” هي المدرسة الواحدة والقائدة المعتمدة لدينا، بغض النظر عن أهمية المبادرة التاريخية والتأسيسات الجديدة والمبتكرة.
وإذا كانت المحاكاة قد فرضت نفسها على البنى الأساس للفكر وللآيديولوجيات الفاعلة في عالمنا متجاوزة حدود المقبول، فإن آثارها قد تبلورت في طبيعة التيارات الفكرية التي تحكمت في عالم السياسة المعاصرة، إذ كان التيار القومي عكسا مرآتيا (طبق الأصل) للحركات القومية الأوروبية التي انطلقت أصلا من معطيات حركة الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر بألمانيا. أما التيار اليساري لدينا، فلا نقاش في أنه صورة طبق الأصل لمعطيات نظرية كارل ماركس ورفيقه فردريك أنجلز الشيوعية، إذ حاولا تحقيق قراءة من نوع جديد وكوني لحركة التاريخ الإنساني على أسس اقتصادية وبالشكل الذي يفضي إلى مرحلة الاشتراكية، ومن ثم مرحلة الشيوعية، أو حتى المشاعية المطلقة. هكذا انطلقت الأحزاب الشيوعية العربية والأحزاب المتفرعة عنها كمحاكاة لما جاءت به التجارب والآيديولوجيات الأوروبية على نحو متعامٍ. حتى التيار الديني السياسي لم يفلت من داء محاكاة النماذج الآيديولوجية والحزبية الأوروبية، باعتبار الصيغ العامة لحقن الأمصال الانبعاثية الدينية (تحت عنوان التجديد) في الحياة السياسية، ولكن على نحو يستلهم الدين الإسلامي، بدلا عن سواه من الأديان، عبر عالمنا.
هكذا ظن البعض بأنهم قد وجدوا “الحلقة المفقودة”، في محاولة للمزاوجة بين الفكرين اليساري الأممي والعربي القومي! لم يكن هؤلاء يدركون، بما فيه الكفاية، بأن الآيديولوجيتين إنما هي محاكاة لآيديولوجيات أوروبية عريقة، ولكن وافدة إلينا، آيديولوجيات كانت قد سبقتنا إليها أوروبا.
وهكذا بقيت المحاكاة الظاهرة الأساس لثقافة عصر النهضة ولثقافة التالي من الأزمان عبر عالمنا العربي الإسلامي. وهي حال مقبولة ولكن إلى حدود. إن تحول المحاكاة من وسيلة للتشبث بالتقدم إلى “إدمان أو سياق فكري” ثابت إنما هو مرض حضاري وثقافي عضال يتوجب مواجهته لأنه يلجم روح المبادرة والتفرد. ليست كلمة “إدمان” كلمة مبالغا بها، ذلك أننا أدمنا على المحاكاة بإسراف درجة قتل روح المبادرة والابتكار في العقل العربي. هذه ظاهرة خطيرة ومؤسفة، خاصة وأنها تتجلى في كل شيء يجري اليوم تقريبا في حياتنا المعاصرة. نحن نحاكي آليات التفكير الغربي، ونحاكي ما يقدمه “معمل” الغرب للإنتاج الواسع، من الملابس إلى طرائق الكتابة، ومن البرامج التلفزيونية المبثوثة عبر الفضائيات إلى الإعلام والدعاية. كل شيء في عالمنا هنا هو محاكاة؛ أما إن لم يكن الأمر محاكاة، فهو “متخلف” رجوعي، لا فائدة ترتجى منه برأي الغالبية. حتى طرائق إحياء التراث والفلكلور الشعبي لا تفلت من محاكاة النماذج الغربية ولكن بموضوعات عربية أو إسلامية محلية مستهلكة. فإذا كنا نحاكي الغرب في كل شيء، لماذا لا نحاكي مراكزه العلمية وجامعاته ومدارسه وطرائق التعامل المتحضر بين البشر فيه. هكذا قامت جامعاتنا، ليس كمحاكاة للمدرسة المستنصرية العباسية، ولكن كمحاكاة للجامعات الغربية، من نوع أوكسفورد أو كامبردج أو السوربون. ولأن المحاكاة لا يمكن قط أن ترتقي بالإنسان من مستوى النموذج إلى مستوى الأنموذج الذي نحاكيه، تكون النتائج مؤسفة في العديد من الحالات: فجامعاتنا لا ترقى إلى نماذج الجامعات الغربية (التي نحاكيها أصلا) لأنها لا ترنو لهدف سوى هدف “المحاكاة”، علما أن ثقافتنا الشائعة لا يمكن أن تقدم شيئا خاصا ومبتكرا لأنها لا تزيد عن محاكاة للثقافة الغربية الشائعة. حتى إعلامنا لا يمكن أن يضاهي أو ينافس الإعلام الغربي لأن هدفه النهائي والرئيسي هو أن يحاكي الإعلام الأجنبي. وتنطبق هذه الحال على كل مفاصل حياتنا العربية الإسلامية المعاصرة، للأسف.
هناك حاجة وماسة لأن تتخلص الثقافة والحضارة العربية من اعتماد المحاكاة الببغائية، خاصة بعد أن تحولت المحاكاة إلى سلوك متعامٍ مقبول ومبارك، وبعد أن صارت هي ظاهرة مرضية تأتي على منابع الإبداع والابتكار المحلي لتجففها، ذلك أن الابتكار الذي لم يخذل العرب والمسلمين في العصر الوسيط، عندما كانت مفاتيح وروحية المبادرة الحضارية لديهم، ينبغي أن يولد من جديد في حواضرنا بغداد وليس في حواضر العالم الغربي.