كتب آن غيران وجوش داوسي وجون هادسون
أرسل دونالد ترامب مستشار الأمن القومي، جون بولتون، في مهمة لتطهير مخلفات التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط قبل أسبوع، التي تضمنت رحلة إلى إسرائيل لثلاثة أيام بهدف طمأنة هذا الحليف الوثيق بأن قرار انسحاب القوات الأمريكية من سوريا لن يتم بصفة فورية، بل سيتخذ نسقا أبطأ. وفي البداية، بدا وكأن الخطة ستنجح، حيث كان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يبتسم وشكر بولتون على إظهاره الدعم الأمريكي.
مع حلول هذا الأسبوع، تلاشت محاولات ثني ترامب ودفعه للعدول عن قراره أو وضع شروط على الانسحاب، وذلك عندما أعلن الجيش الأمريكي مباشرة عمليات الانسحاب التدريجي من سوريا. في المقابل، سعى الكثيرون إلى تقويض قرار ترامب وعكسه، على غرار مسؤولي الأمن القومي الأمريكيين والحلفاء الأجانب والصقور الجمهوريون في الكونجرس.
منذ إعلان ترامب المفاجئ في سوريا خلال الشهر الماضي، شهدت القيادة الأمريكية مفاوضات شبيهة بلعبة شد الحبل بين ترامب وحلفاؤه ومستشاريه للنظر في الطريقة المثلى للانسحاب. من جهته، تحدث نتنياهو إلى ترامب قبل يومين من إعلانه وبعده بيوم واحد، كما حاول الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ثنيه عن قراره، في حين كان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قد أبدى قلقه إزاء عدم تمكن ترامب من تنفيذ مخططه بسرعة وأمان.
توضح هذه السياسة النتائج بعيدة المدى لميول دونالد ترامب لاتخاذ قرارات متهورة ذات نتائج متفاوتة، وذلك وفقا للمناقشات التي أجراها أكثر من 12 مسؤولًا حاليين وسابقين في الولايات المتحدة ودبلوماسيين دوليين، الذين تحدثوا إلى صحيفة “واشنطن بوست” شريطة عدم الكشف عن هوياتهم لمناقشة الأمور بصراحة.
نتيجة لسلوكه الغريب في سوريا، خسر دونالد ترامب أحد أكثر أعضاء حكومته احتراما من قبل المنافسين، ألا وهو وزير الدفاع السابق، جيمس ماتيس. علاوة على ذلك، تسببت ممارسات ترامب في تراجع ثقة حلفاء وشركاء الولايات المتحدة حيال مدى التزامها في الشرق الأوسط، كما أنها زادت من إمكانية وقوع مواجهة عسكرية بين تركيا والقوات الكردية في سوريا. حيال هذا الشأن، نشر الرئيس الأمريكي تغريدة مثيرة للجدل ورد فيها: ” نحن نباشر الانسحاب الذي طال انتظاره في سوريا مع الاصطدام بالجماعات المتبقية القليلة لتنظيم الدولة في المنطقة”. وفي تغريدة أخرى، كتب دونالد ترامب أن تركيا ستدمر اقتصاديا في حال عملت على ضرب الأكراد.
من جهته، سعى وزير الخارجية، مايك بومبيو، لطمأنة الحلفاء في جولة طويلة في العواصم العربية خلال الأسبوع الماضي، واعداً بأن الانسحاب الأمريكي لن يغير التزام إدارة ترامب إزاء هزيمة تنظيم الدولة بشكل كامل وإخراج القوات الإيرانية من سوريا. وخلال تواجده في الإمارات العربية المتحدة يوم السبت، قال بومبيو: “إن طموحنا يتمثل في طرد كل إيراني من الأراضي السورية، هذه هي مهمتنا. إن سحب آلاف المقاتلين من سوريا يعتبر أمرا تكتيكيا، كما أنه لا يغير من قدرتنا على أداء المهام العسكرية التي نحتاج إلى القيام بها”.
تجدر الإشارة إلى أن فحوى هذه الرسالة لم تعمل على طمأنة حلفاء الولايات المتحدة الذين يعتريهم التوتر. وقد أورد أحد الحلفاء المطلعين على الجدل الدائر في سوريا أن الأشخاص الذي يعملون بالقرب من الرئيس ترامب هم المسؤولون عن هذه الفوضى، وأضاف قائلا: “إنهم لا يمنحونه الخيارات التي يبحث عنها، مما يدفعه لمهاجمة الكثير من الأشخاص. فالأمر ليس وكأنه أراد مغادرة سوريا من العدم. لقد سبق له القيام بحملة تتعلق بهذا الأمر. ويمكنك أن تقول إن هذا الأمر قرار سيء وبأنه لا يساعد على الاستقرار، لكن لا يمكنك القول إنك تفاجئت فور معرفتك لرغبته في فعل ذلك”.
صورة التُقطت في 30 كانون الأول/ ديسمبر الماضي تُظهر موكبا من المركبات العسكرية في مدينة منبج بشمال سوريا.
“أنا لم أحدد ما إذا كان الانسحاب سيتخذ نسقا بطيئا أو سريعا”
كان بنيامين نتنياهو ثاني زعيم أجنبي يعلم بشأن قرار دونالد ترامب خلال الشهر الماضي، حيث كان أردوغان أول من سمع بذلك من خلال مكالمة هاتفية مع نظيره الأمريكي في 14 كانون الأول/ ديسمبر الماضي. ومنذ ذلك الحين، لعب حليفا الولايات المتحدة المتنافسان دورا مركزيا في الدراما السورية. الجدير بالذكر أن أول اتصال لترامب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي جاء في 17 كانون الأول/ ديسمبر عقب مساعي بولتون وماتيس وغيرهما لتثبيط ترامب ودفعه للعدول عن الانسحاب المفاجئ.
من جهتهم، قال مسؤولون حاليون مطلعون على الأحداث أن بعض مسؤولي الأمن القومي الأمريكي الحاليين والسابقين يأملون في أن يساعد نتنياهو في إقناع ترامب بإبطاء الانسحاب بغض النظر عن تقدمه في تنفيذ القرار الذي اتخذه بشأن القوات الأمريكية في سوريا. وقد أعرب نتنياهو عن خشيته من استفادة إيران من قرار ترامب الذي يندرج ضمن مساعي ترامب لجعل “أمريكا أولا” عن طريق سحب قواته من الحروب الخارجية.
علاوة على ذلك، أعلن أشخاص مطلعون على المحادثات أن نتنياهو أخبر ترامب أن بلاده ستدافع عن نفسها بنفسها لكنها تفضل الحصول على المزيد من الوقت للتكيف مع الوضع الجديد. وبعد مضي يومين، أعلن الرئيس الأمريكي انسحاب قواته في غضون 30 يوما. وبالتزامن مع تصاعد الانتقادات الحزبية والدولية، أجرى ترامب ونتنياهو محادثة أخرى في 20 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وهو اليوم الذي استقال فيه ماتيس بسبب ما اعتبره تخليا متسرعا عن القوات الكردية المقاتلة.
في ذلك الوقت، صرح نتنياهو قائلا: “هذا قرار أمريكي بطبيعة الحال. نحن سندرس الجدول الزمني لعملية الانسحاب وكيفية القيام بها والأثر الذي ستخلفه على إسرائيل. وعلى كل حال، سنحرص على الحفاظ على أمن إسرائيل والدفاع عن أنفسنا في هذا المجال”. وفي حديث أجراه مع وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، في البرازيل، جدد رئيس الوزراء الإسرائيلي مخاوفه إزاء تبعات القرار الأمريكي. وفي غضون ذلك، بدا أن إسرائيل تزيد من ضرباتها الجوية السورية في سوريا، بما في ذلك الهجمات بالقرب من العاصمة دمشق في يوم عيد الميلاد.
أفاد أشخاص مقربون من ترامب أن الرئيس الأمريكي استشاط غضبا من استقالة وزير الدفاع الأمريكي، جيمس ماتيس، واعتبرها توبيخا بشكل علني، كما أنه شعر بالغضب من التغطية الإعلامية لقراره، بما في ذلك عمليات التثبت من الحقائق التي دحضت ادعاءه بأن تنظيم الدولة تعرض للهزيمة. وفي الأسابيع التي تلت ذلك، برزت عدة دلائل تشير إلى إمكانية تهدئة ترامب لموقفه تجاه سوريا، كما أنه بدا أقل انزعاجاً مما اعتبره رد فعل من طرف مساعديه، وذلك على حد قول نصف المسؤولين الأمريكيين والدبلوماسيين الدوليين المطلعين على النقاش.
حيال هذا الشأن، اقترح البنتاغون جدولاً زمنياً لمغادرة سوريا على مدى أربعة أشهر عوضا عن الاكتفاء بشهر واحد فقط، ونأى دونالد ترامب بنفسه عن سياسته المعلنة في الوقت الذي نفى فيه حدوث تغيير. وفي تصريح أدلى به للمراسلين الصحفيين، قال الرئيس الأمريكي: “لم أحدد أبدا ما إذا كان الانسحاب سيتخذ نسقا بطيئا أم سريعا”.
صرح مسؤولون حاليون وسابقون أن زيارة ترامب للعراق الشهر الماضي، وهي أول رحلة له في زمن الحرب كرئيس للولايات المتحدة، كانت أيضا دليلا على غموضه الواضح. لقد صُعق ترامب من الإجراءات الأمنية المشددة خلال زيارته إلى العراق، التي ترجع جزئياً إلى التهديد الإقليمي من قبل تنظيم الدولة. وأثناء وجوده في العراق، سمع ترامب مباشرة من القادة الأمريكيين عن مخاطر أن هزيمة الجماعات الإرهابية في مكان واحد فقط يجعلها تنبثق في مكان آخر.
في ليلة رأس السنة، تناول ترامب الغداء مع السيناتور، ليندسي غراهام، الذي كان يؤيد وجود الولايات المتحدة في سوريا. وفي هذا السياق، أفاد العضو الجمهوري عن ولاية كارولينا الجنوبية أن ترامب وافق خلال الغداء على تحقيق عدة أهداف قبل سحب القوات. وقال غراهام في مقابلة في مطلع الأسبوع الماضي: “نحن نحاول إبطاء عملية سحب القوات من سوريا”. وأورد غراهام قائلا: “لقد وعد الرئيس بتحقيق ثلاثة أهداف قبل أن تبدأ عملية سحب القوات ألا وهي؛ هزيمة تنظيم الدولة، وإخراج إيران وحماية الأكراد”. وأضاف غراهام: “لقد أخبرني أنه موافق على تحقيق هذه الأهداف الثلاثة”.
رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو (على اليمين)، ومستشار الأمن القومي الأمريكي، جون بولتون، يغادران المنصة بعد تصريحاتهما إلى وسائل الإعلام عقب اجتماعهما معا في القدس في السادس من كانون الثاني/يناير.
لم يكن ينبغي أن تسير الأمور على هذا النحو
كان من المفترض أن تؤدي رحلة بولتون إلى كل من إسرائيل وتركيا، إلى تخفيف حدة التوتر، لكنها عوضا عن ذلك أثارت جدلا جديدا. فقد صرح بولتون في القدس أن القوات الأمريكية ستبقى في سوريا إلى أن تنتهي الحاجة إليها، وكذلك إلى أن تتأكد واشنطن من سلامة حلفائها الأكراد. وأكد نتنياهو أن الولايات المتحدة ترى التهديد الإيراني مثلما يراه هو أيضا. تجدر الإشارة إلى أن أردوغان كان غاضباً للغاية من تصريحات بولتون بأن أحد شروط الانسحاب هو التأكد من أن تركيا لن تهاجم “الأكراد”، إضافة إلى تحذيره بعدم القيام بعمل عسكري دون تنسيق مع الولايات المتحدة.
في هذا السياق، قال مسؤولون أميركيون وأتراك إن بولتون كان ينوي الإشارة إلى المتمردين الأكراد السوريين الذين يقاتلون إلى جانب الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة، لكنه أثار غضب أردوغان من خلال استخدام لغة غير دقيقة بحيث بدا وكأنه يشير إلى الرئيس التركي. ووفقا لثلاثة أشخاص مطلعين على المفاوضات، فإن هذه التصريحات أدت على الفور إلى إجراء مفاوضات في أنقرة والتقريب بين المسؤولين الأتراك والمبعوث الأمريكي الخاص إلى التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة، جيمس جيفري، الذي أغضبته تصريحات بولتون.
بيّن أردوغان أن بولتون ارتكب خطأً فادحًا، كما كتبت الصحيفة اليومية “ديلي صباح”، التي تصدر باللغة الإنجليزية، أن بولتون كان يدبر انقلابًا ناعمًا ضد ترامب من داخل إدارته. وقالت الصحيفة: “ربما كانت فكرة سيئة أن يتصرف بولتون بهذه الطريقة وأن يحاول فرض شروط أخرى لانسحاب الولايات المتحدة من سوريا”. ووفقا لما ذكره شخص مطلع على تصريحاته، فإن الرئيس التركي رفض الاجتماع مع بولتون، الذي عاد مبكرا إلى واشنطن، كما أخبر الجميع أنه لا يعتقد أن مستشار الأمن القومي الأمريكي يمكن أن يتحدث نيابة عن إدارة ترامب.
وصف أحد المسؤولين المطلعين على الرحلة، أن لقاء بولتون بمسؤولين أتراك آخرين كان بمثابة محاولة لتوظيف خطوة ترامب غير المدروسة للانسحاب من سوريا بشكل مثالي، وهي محاولة لإبطاء عملية الانسحاب مع ضمان أن تركيا لن تقوم باستهداف المقاتلين الأكراد. وفي شأن ذي صلة، قال أحد مستشاري ترامب، الذي طلب إلى جانب مسؤولين أمريكيين ومسؤولين سابقين ودبلوماسيين دوليين آخرين عدم الكشف عن أسمائهم ليتمكنوا من وصف هذه العملية الفوضوية بحرية أكبر، إن رحلة بولتون كانت مشؤومة للغاية. وأورد هذا المستشار قائلا: “لقد أفسدوا الأمر برمته، فالأمور لم يكن ينبغي أن تسير على هذا النحو، لقد كان بإمكاني الدفاع عن هذا القرار إذا تم التخطيط له بشكل مدروس”.
في هذا الصدد، وصف مسؤول في وزارة الخارجية ردود أفعال جيفري الغاضبة بأنها زائفة، لكنه لم يذكر أي تفاصيل. وقال المسؤول: “لن نرد على أي أسئلة تتعلق بالمناقشات الدبلوماسية”. لم يرد المتحدث باسم بولتون على أسئلة حول تصريحاته وتفاعلاته مع المسؤولين الأمريكيين. وفي حديثه يوم الجمعة في مقابلة مع المنشط الإذاعي المحافظ، هيو هيويت، قلل بولتون من شأن هذه المسألة، مشيرا إلى أن أردوغان ربما أراد المشاركة في عرض سياسي قبل الانتخابات الوطنية التي ستجرى في ربيع هذه السنة. وأفاد بولتون قائلا: “لقد أوصلت الرسالة التي أراد الرئيس إيصالها إلى نظيره”.
رحب وزير الشؤون الخارجية السعودي، عادل الجبير، بوزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، في الرياض في 13 كانون الثاني/ يناير.
الإحباط
يشبه الجدل الدائر حول سوريا الآن الجدل الذي وقع عديد المرات من قبل. وقد قال أحد الأشخاص المطلعين على المناقشات إن ترامب يشعر بالإحباط بسبب المقاومة داخل إدارته، فهو يقرر اتخاذ قرار غير مدروس، ليجد أن جميع من حوله يعارضونه. وأضاف هذا الشخص قائلا: “عندما يخرج الأمر عن سيطرته، فهو يشعر بالإحباط”.
كما أورد هذا المصدر أن استقالة كل من جيمس ماتيس وبريت ماكغورك، المبعوث الأمريكي إلى التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة، إلى جانب الضغوطات من قبل غراهام ونتنياهو وعديد الأطراف الآخرين، جعلت ترامب يعزف عن تنفيذ قراره لفترة من الزمن، حتى وإن ظل عازماً على الانسحاب في المستقبل القريب. وقد رتب ماتيس وبولتون وبومبيو مقابلات مع مسؤولين آخرين لمحاولة إقناع ترامب بأن الانسحاب الفوري سيكون له عواقب وخيمة.
أكد مسؤول على دراية بالمناقشات حول سوريا، التي دارت لعدة أشهر بين مجلس الوزراء ومجلس الأمن القومي، أن السياسة الجديدة هدفها إعادة التمركز، بعد أن أكد ترامب أن القوات الأمريكية ستخرج في نهاية المطاف. علاوة على ذلك، أضاف هذا المصدر أن “الأمر بسيط للغاية، فلطالما كان ترامب يشكك باستمرار في بقاء قواتنا في الشرق الأوسط، وتحديدا في سوريا وأفغانستان والعراق. ومنذ البداية، كان هناك تردد، خاصة مع وقوف جميع مسؤولي الأمن القومي إلى حد كبير مع الطرف الآخر وتأكيدهم على مزايا مواصلة البقاء هناك”.
في الحقيقة، من غير المحتمل أن يتراجع ترامب عن رأيه. فعندما زار أعضاء مجلس الشيوخ في الكونغرس يوم الأربعاء للحديث عن قرار الانسحاب، ألقى ترامب للمرة الأولى خطابا دام 20 دقيقة أدان فيه الحروب التي لا نهاية لها وتكاليفها الباهظة. أما بالنسبة للحرب في سوريا والصراعات الأجنبية الأخرى، فقد قال ترامب: “نحن من سنربح”.