مقالات

مبررات منطقية

أيمن حسين

اتبع موسى عليه السلام العبد الصالح الخضر ليتعلم منه شريطة عدم السؤال عن الأفعال، فإذ به يشاهده يخرق السفينة التي تقلهم مع آخرين في عرض البحر، ويقتل الغلام دون ذنب اقترفه، وينقض جدارا ويبنيه في قرية رفضت إطعامها، وفي كل مرة يسأل النبي موسى الخضر إلى أن فسر له تصرفاته وأفعاله ليتبين للنبي أن الأفعال التي تتنافى مع دعوة النبوة والرسالة السماوية، ويلفظها المجتمع والبشر بصفة عامة، كانت خيرا للناس ورحمة بالبشر وحماية للحقوق، ولهذا قد يكون في شرعنة الخروقات القانونية والعقلية ما ينفع الناس.
وفي التاريخ العربي اجتاح التتار الأراضي العربية وأطاحوا بالممالك الإسلامية حتى وصلوا إلى مقربة من الحدود الشرقية لمصر منذ أكثر من ثمانية قرون ونصف، ووجد الملك المظفر سيف الدين قطز (حاكم مصر) نفسه بلا قوات، وجيش مترهل القوة، ولا يمتلك المال لتسليح الجيش وتحصين حدود وقلاع البلاد، وكادت مصر أن تكون أسهل دولة يستولي عليها التتار، لكن حل الاعتماد على الذات ومن الداخل جاء من طرف الشيخ العز بن عبدالسلام فأجاز بضرورة أخد أموال الأمراء والمماليك أولا لإعداد العدة العسكرية وتوفير العتاد لقتال التتار، وإن لم تكن كافية يتم فرض ضرائب على الشعب، ولأنه صاحب بصيرة تحقق للدولة المصرية ما أرادت، وانتصر سيف الدين قطز في معركة عين جالوت الشهيرة عام 1260م دون أن يطلب العون من قوى خارجية أو الدعم من ممالك أخرى أو الجور على شعبه، أو الانبطاح أمام العدو، ورغم أن أمراء المماليك امتعضوا من القرار إلا أنه أرسى حكم دولة المماليك لما يزيد عن قرنين ونصف القرن.
في علم الأديان يكون الأمر مقبولا بفضل أن الأشخاص ربما يكونون أنبياء أو علماء أو ممن لديهم بصيرة، وفي نفس الوقت يكونون غير مطالبين بتقديم التبريرات، أما في علم السياسة بالتأكيد لا يوجد فيه نبي ولا عالم ولا صاحب البصيرة النافذة، بل وفي نفس الوقت إذا أقدم السياسي على شرعنة تصرف أو إجراء أو قرار فيه خرق للقانون أو العرف يكون مطالبا بتقديم المبررات والدوافع وشرح المزايا والمكاسب من وراء فعلته.
والأسبوع الماضي نقلت وكالة رويترز نبأ إقرار الحكومة الروسية لمشروع قانون يتيح لروسيا زراعة وإنتاج النباتات والمحاصيل المخدرة أو التي يستخلص منها المخدرات التي تستخدم في أغراض طبية، بداعي أنها تواجه نقصا في هذه المواد ولا تريد استيرادها من الخارج.
رغم أن القانون ينتظر تصديق البرلمان والرئيس الروسي عليه، إلا أن المبررات التي ساقتها الحكومة لشرعنة القانون تبدو منطقية بعدما أبانت وزيرة الصحة الروسية فيرونيكا سكفورتسوفا أن أغلب المواد التي تستخدمها روسيا في الأدوية المسكنة المصنعة محليا تأتي من دول فرضت عقوبات على موسكو ـ تقصد الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي بعد أن ضمت موسكو شبه جزيرة القرم من أوكرانيا في 2014 ـ، وسردت الوزيرة حجتها للصحفيين قائلة “حتى لا نترك شعبنا بدون مسكنات للألم يتعين علينا الاعتماد على الذات.. يتعين علينا إنتاج الدائرة الكاملة للدواء ـ من المادة إلى الشكل الدوائي” ـ بحسب وكالة رويترز. بما يدل على نبل الهدف الروسي لشرعنة زراعة المحاصيل المخدرة لأعمال طبية من منطلق الاعتماد على الذات.
ما تفعله روسيا رغم أنه مخالف للعادات والتقاليد والقوانين؛ لكن مغزاه كسر هيمنة شركات الأدوية الأوروبية والأميركية على سوق الدواء الروسي، وتوفير البديل المحلي للشعب الروسي حتى لو كان من خلال عملية “خرق مباح” واللجوء لزراعة محاصيل مخدرة لحفظ الهيبة في عملية الاستيراد وإظهار الشدة في مواجهة الحصار.
لا تُبنى الأمم إلا بالاعتماد على الذات، ولا تكتسب الدول القوة إلا من مجهود وعزيمة شعوبها، وسداد رأي الحاكم يكون بالتوافق المجتمعي على قرار موحد، لكن السياسة تحتاج توضيحا وتقديم أسانيد خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بخرق مبادئ أو عادات محلية أو انتهاك قوانين دولية.
لدى العرب كل مقومات القوة البشرية والمالية والاستراتيجية، لكن أراضيهم يتسابق عليها المحتلون، وثرواتهم ينهبها الغازون، وبعض حدودهم محاصرة، فبالتأكيد ليس فيهم نبي أو ذو علم وفير ليكون قادرا على اتخاذ قرارات تضاهي أفعال الخضر، لكن حتما الحلول من الداخل بالاعتماد على النفس، ففيهم درر مكنونة قادرة على إفراز البصيرة كمثل قطر والعز بن عبدالسلام، وكذلك الآلاف من الساسة المحنكين كوزيرة الصحة الروسية أو رئيسها.. فهل من الممكن أن نرى خرقا عربيا مباحا لتقاليد أو أعراف أو قوانين، وشرعنة وضعها الجديد لمداواة الضعف الذي تعانيه البلدان العربية من حيث الافتقار إلى السلع الرئيسية والاستراتيجية التي تستوردها من الخارج بمليارات الدولارات، أو نفض حالة التواكل والارتكاز على قوى خارجية لتوفير قوتها ودوائها وسلاحها؟!