أظهرت الانتخابات الرئاسية التركية أخيراً عجز المعارضة عن اجتياز متلازمة الـ2 في المئة التي بقيت تخيّم على استحقاقات العقد الأخير من حكم “العدالة والتنمية”، كيفما تغيّرت التحالفات والقوانين الانتخابية واشتدّت الأزمات الاقتصادية في البلاد. في الانتخابات الرئاسية عام 2014، عندما اختار الأتراك رئيسهم للمرة الأولى من خلال الاقتراع المباشر، حصل الرئيس رجب طيب أردوغان على 51.79 في المئة من الأصوات، وفي الاستفتاء على تعديل الدستور الذي جرى في 16 نيسان (أبريل) 2017، وانتهى بتغيير نظام الحكم في تركيا من البرلماني إلى الرئاسي، حسم التحالف الحاكم والمكوّن آنذاك من حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية النتيجة لمصلحته، على الرغم من معارضة حزبي الشعب الجمهوري والشعوب الديموقراطي لهذا التعديل. صوّت الشعب التركي بالموافقة على تعديل الدستور بنسبة 51.41 في المئة مقابل معارضة 48.59 من الأصوات الرافضة، في مشهد أشبه بالانتخابات الرئاسية الأخيرة والتي انتهت بحصول الرئيس التركي على 52.18 في المئة، مقابل 47.82 في المئة.
على الرغم من الأزمات السياسية على الساحتين الإقليمية والدولية والمشكلات الاقتصادية الخطيرة التي مرت بها البلاد، إلا أن المعارضة عجزت عن تقليص فارق الـ2 في المئة الانتخابي ليتحول إلى متلازمة يبدو أن مضاعفاتها ستكون ثقيلة جداً على “الطاولة السداسية” في الأشهر وحتى الأعوام المقبلة. بالإضافة إلى المتلازمة المذكورة، فإن خريطة التصويت أيضاً حافظت على ألوانها في تأكيد لثبات الولاءات في الولايات التركية من دون تغيير، على الرغم من آمال المعارضة في أن تؤدي الاستجابة القاصرة للزلزال وإغاثة ضحاياه إلى تبدّل في مزاج الناخبين في المناطق المنكوبة، التي تغلب عليها كثيراً التيارات المحافظة والقومية الموالية لتحالف الشعب. ففي استفتاء عام 2017، صوّتت المدن الكبرى الثلاث لمصلحة المعارضة للمرة الأولى منذ عام 2002. انعكست هذه الصورة في الانتخابات الرئاسية في 24 حزيران (يونيو) 2018، كما استمر الوضع ذاته في الانتخابات المحلية لعام 2019، وأخيراً حسم مرشّح المعارضة كمال كليتشدار أوغلو المدن الكبرى الثلاث: اسطنبول وأنقرة وأزمير، لمصلحته في الانتخابات الأخيرة. بالإضافة إلى ذلك، فقد بقيت الولايات الجنوبية الشرقية والشرقية للبلاد، ذات الغالبية الكردية، على موقفها القديم-الجديد أيضاً. فقد رفضت التعديلات الدستورية في استفتاء عام 2017، ومنحت أصواتها لمرشّح حزب الشعوب الديموقراطي في الانتخابات الرئاسية لعام 2018، وفيما نجحت في حصد الغالبية العظمى من البلديات في الانتخابات المحلية الأخيرة، فقد بقيت وفيّة لنداء حزب اليسار الأخضر (الشعوب الديموقراطي) لتؤيد بأغلبية كبيرة مرشّح المعارضة في الانتخابات الرئاسية قبل أيام، لتكون أكثر الولايات التركية منحاً للأفضلية لكليتشدار أوغلو الذي تقدّم على أردوغان فيها بفارق كبير عجز عن تحقيقه في الولايات التركية الأخرى إلا ما ندر. في لائحة المدن الخمس الأولى، الأكثر تصويتاً للرئيس التركي، منحت كل من مدن بايبورت وغوموشخانة وتشانكيري ويوزغات وريزة أصواتها للرئيس التركي بنسبة تجاوزت 75 بالمئة. في المقابل، فإن أربعاً من أصل خمس مدن من الأكثر تصويتاً لكمال كليتشدار أوغلو هي تلك التي تقطنها غالبية كردية، وهي تونجيلي وشرناك وهكاري ودياربكر، التي انتخبت الزعيم الكردي المسجون صلاح الدين دميرتاش بالنسب نفسها تقريباً في الانتخابات الرئاسية ما قبل الأخيرة، عدا كيركلارالي، التي تقطنها غالبية تركية. في نضاله من أجل هزيمة أردوغان، اتّبع حزب الشعب الجمهوري، الذي يعتبر المعارضة الأم في البلاد، منذ عام 2014، جملة من التكتيكات المختلفة، بل حتى المتناقضة في بعض الأحيان، من دون أن ينجح في تقليص الفارق العقدة بينه وبين السلطة. ولكن، بخلاف كل الاستحقاقات الماضية، نجح الحزب للمرة الأولى في خلق مناخ من التفاؤل بإمكان فوزه على خصمه العنيد للمرة الأولى، بخاصة مع إظهار معظم استطلاعات الرأي تقدّمه في الانتخابات البرلمانية وإقصاء كليتشدار أوغلو لمنافسه، وهو الهدف الثالث الذي لم يتحقق أيضاً بعد كل من هدفي الحصول على الأغلبية البرلمانية على مستوى الأحزاب أولاً وعلى مستوى التحالفات الانتخابية ثانياً. أثبتت الانتخابات الأخيرة أن تكتيك توسيع تحالف الأمة الذي اتّبعه حزب الشعب الجمهوري بضم أحزاب أخرى إلى تحالفه تحت مسمّى “الطاولة السداسية”، لم ينجح أيضاً في الحصول على نسبة 2 في المئة المنشودة. فعلى الرغم من حصول حزبي “السعادة” و”الديموقراطي” على نحو 2 في المئة في الانتخابات السابقة، وحصول حزب “المستقبل” و”التقدّم والديموقراطية” الحديثي النشأة على أكثر من 2 في المئة أيضاً في استطلاعات الرأي، إلا أن انضمامهم إلى تحالف الأمة لم يؤدّ إلى زيادة أصواته أو تقليص فارق المتلازمة. في النتيجة، ستستمر متلازمة الـ2 في المئة عقبة سيكولوجية أمام المعارضة التركية، إذا لم تنجح في تطوير برامج وسياسات جديدة مختلفة عما قامت به خلال العقد الأخير، مع ضرورة التذكير بأنها استطاعت حسم أكبر مدينتين في البلاد، العاصمة أنقرة والعاصمة الاقتصادية والثقافية اسطنبول، بفارق لم يتجاوز أيضاً 2 في المئة، وهي نسبة غير قادرة على ضمان إعادة الظفر بالبلديّتين الأكثر أهمية في البلاد في الانتخابات المحلّية المقبلة في آذار (مارس) المقبل.