متى يتقن سياسيّو العراق فن السياسة؟

8

 

 

في كل دول العالم، تُعدّ السياسة فنّ الممكن، حيث يتحرك الساسة وفق قواعد المصالح، ويتعاملون بمرونة مع الأحداث، مدركين أن الأوضاع لا تثبت على حال، وأن المناورة والتكتيك جزء لا يتجزأ من العمل السياسي. لكن في العراق، يبدو أن السياسيين لم يدركوا بعد هذه القواعد، أو ربما يدركونها ولكنهم يصرّون على ممارسة السياسة بطريقة أقرب إلى العناد والمكابرة منها إلى فن القيادة وإدارة الأزمات .

 

السياسة بين الفهم والتطبيق

السياسي الناجح هو من يستطيع أن يوازن بين المبادئ والمصالح، ويدير الأزمات بذكاء دون أن يخسر قواعده الشعبية أو يحرق أوراقه مع القوى الفاعلة محليًا ودوليًا. لكن الواقع العراقي يشير إلى أن غالبية الطبقة السياسية لم تستوعب هذه الحقيقة، فتجدهم إما متصلّبين في مواقفهم حتى لو كان الثمن انهيار الدولة، أو متقلبين بلا هوية واضحة، متأرجحين بين الولاءات الخارجية والمصالح الشخصية.

على مدى العقدين الماضيين، عانى العراق من إخفاقات سياسية متتالية، ليس بسبب غياب الفرص، بل لأن من يدير المشهد لا يمتلك القدرة على توظيف هذه الفرص لصالح الشعب. تارةً تغلب الحسابات الفئوية والطائفية، وتارةً يُقدَّم الولاء للخارج على حساب المصالح الوطنية، وتارةً يغرق السياسيون في صراعات داخلية لا تسمن ولا تغني من جوع .

 

القرار السياسي.. بين الإملاءات الخارجية وضياع البوصلة

من أكبر المشاكل التي تواجه الساسة العراقيين أنهم لم يمتلكوا بعد القدرة على اتخاذ قرارات استراتيجية دون الخضوع للإملاءات الخارجية. فمنذ عام 2003، والعراق ساحة مفتوحة للتدخلات الإقليمية والدولية، حيث أصبحت القرارات المصيرية تُتخذ خارج حدود الوطن، وأصبح بعض السياسيين مجرد أدوات بيد القوى الكبرى، دون أن يكون لهم مشروع وطني واضح.

السياسي المحترف هو من يستطيع التفاوض وتحقيق المكاسب دون أن يكون تابعًا بالكامل لهذه الدولة أو تلك، لكنه أيضًا يدرك متى يجب أن يُعيد التموضع ويغير استراتيجيته وفقًا للمصلحة الوطنية. أما في العراق، فهناك سياسيون ارتبطوا بمحور معين ولم يعودوا قادرين على الخروج منه، حتى لو أصبح ذلك المحور عبئًا عليهم وعلى البلاد بأسرها.

 

غياب التخطيط طويل الأمد

السياسة ليست مجرد ردود أفعال على الأزمات، بل هي تخطيط استراتيجي طويل الأمد، وهذا ما يفتقده أغلب السياسيين في العراق. فهم لا يعملون على بناء مؤسسات قوية، ولا يضعون خططًا تنموية مستدامة، بل يعتمدون على إدارة الأزمات بطريقة آنية، مما يجعل العراق يدور في دوامة من الفشل والتراجع.

كل حكومة تأتي تبدأ من الصفر، وتُلقي باللوم على سابقتها، دون أن يكون هناك مشروع وطني مستمر. وفي ظل هذا التخبط، يبقى المواطن العراقي هو الضحية، حيث لا أمن مستقر، ولا خدمات متطورة، ولا اقتصاد مزدهر، بل وعود فارغة وشعارات جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع.

 

هل هناك أمل؟

رغم هذا المشهد القاتم، يبقى السؤال: هل هناك فرصة لتغيير هذا النمط السياسي العقيم؟ الجواب يعتمد على مدى إدراك الجيل الجديد من السياسيين لأهمية التغيير. فالعراق ليس بلدًا فقيرًا بالموارد أو بالكفاءات، لكنه بحاجة إلى طبقة سياسية جديدة تفهم أن السياسة ليست صراعًا عبثيًا أو ساحة لتصفية الحسابات، بل هي فنّ الممكن، حيث تتحقق المصالح الوطنية عبر المرونة، لا التبعية، وعبر التخطيط، لا الفوضى.

إذا لم يدرك الساسة العراقيون هذه الحقائق قريبًا، فالتاريخ لن يرحمهم، والشعب الذي صبر طويلًا قد يصل إلى نقطة اللاعودة، وعندها لن يكون هناك مجال للمراوغة أو التبرير، بل سيكون العقاب بحجم الخيبات التي عاشها العراق طوال العقود الماضية .

التعليقات معطلة.