منذ قرنٍ كامل والشرق الأوسط يعيش في دائرة مفرغة من الحروب والانقلابات والاحتلالات والصراعات الطائفية. تتبدل الأنظمة، وتتغير العواصم الفاعلة، لكن النزيف لا يتوقف، والسلام الحقيقي لا يزال غائباً، وكأنه قدرٌ محتوم.
فهل كتب على هذه المنطقة أن تظل مشتعلة إلى الأبد؟ أم أن السلام ممكن، إذا ما توافرت الإرادة، وتغيّرت المعادلات؟
فلسطين جوهر الصراع… والطائفية انحراف متعمّد عن البعد القومي
منذ لحظة إعلان وعد بلفور، لم تكن فلسطين مجرد قضية حدود أو وطن مسلوب، بل كانت المحور الذي يحدد علاقة الشعوب العربية بالعدالة، والهوية، والكرامة. كان الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي صراعًا تحرريًا ذا بعد قومي، يعبّر عن وجدان عربي جمعي، يرى في فلسطين بوابة النهضة أو بوابة الهزيمة.
لكن مع تسارع التحولات الإقليمية، وتدخل اللاعبين الدوليين، فُرضت على المنطقة قراءة طائفية جديدة لمعادلة الصراع، جرى خلالها تشويه الأولويات، وتحويل الصراع من “تحرر عربي ضد احتلال أجنبي” إلى “نزاع طائفي داخلي”. وهكذا، أصبحت إيران تدّعي احتكار المقاومة، بينما تم تجريم المشروع القومي العربي، وأُعيد رسم خرائط العداء بما يخدم بقاء الاحتلال لا زواله.
هذا الانحراف لم يكن عفويًا، بل جاء في سياق هندسة سياسية محكمة، هدفها تفكيك البنية المعنوية للعرب، وسرقة البوصلة منهم، ليصبح الأخ هو العدو، والعدو الحقيقي مجرد طرف في خلاف إقليمي!
التدخلات الدولية والإقليمية: تعقيد المشهد
لم يكن الشرق الأوسط ليغرق في هذه الأزمة المعقدة دون أن تغذيها التدخلات الدولية والإقليمية، التي تُنفق على استمرار الصراع وتضاعف من تعقيداته. الولايات المتحدة، وروسيا، وفرنسا، وتركيا، وإيران، جميعهم يشكلون شبكة مصالح متشابكة، تحاول توظيف الصراعات المحلية لتحقيق مكاسب استراتيجية.
هذا الواقع يجعل أي اتفاق سلام لا يرضي أحدًا من هذه الأطراف محكومًا بالفشل. فلكل دولة من هذه الدول مصالحها الخاصة، وعلاقاتها المتناقضة مع بقية الأطراف، مما يحول دون توافق إقليمي أو دولي حقيقي حول سلام شامل.
الطائفية: أداة تقويض الوحدة العربية
لم تكن الطائفية سوى أداة متقنة لتفكيك الوحدة العربية، وإضعاف الشعوب، من خلال زرع الفتن الداخلية التي تُلهي عن القضايا الوطنية الحقيقية. استُخدمت الطائفية كغطاء لتبرير تدخلات خارجية، وأحيانًا كوسيلة داخلية للسيطرة على السلطة.
لكن الشعب العربي، رغم كل محاولات التفريق، لا يزال يتوق إلى الوحدة، ويفهم أن القضية الفلسطينية هي أكثر من مجرد قضية وطنية أو طائفية، إنها قضية حرية وكرامة.
شروط السلام الحقيقي في الشرق الأوسط
لن يتحقق سلام مستدام في الشرق الأوسط ما لم تُلبَّ هذه الشروط الجوهرية:
إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وفق قرارات الشرعية الدولية، وتطبيق حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير.
تحرير القرار الوطني من التدخلات الأجنبية، وإعادة بناء الدولة المدنية التي تحترم التعدد والتنوع.
وقف الدعم السياسي والمالي للطائفية والميليشيات، وتعزيز ثقافة المواطنة الجامعة.
العدالة الاقتصادية والاجتماعية التي تضمن توزيعًا عادلًا للثروات والفرص.
الحوار الوطني والإقليمي لإعادة صياغة ميثاق اجتماعي عربي جديد يواجه تحديات القرن الحادي والعشرين.
العقبات الكبرى في طريق السلام
هناك العديد من العوائق التي تعيق تحقيق السلام، من بينها.
إصرار الاحتلال على بقاء السيطرة دون تنازلات حقيقية.
الأنظمة المستبدة التي تستغل حالة الصراع لتثبيت حكمها.
غياب الوحدة العربية الحقيقية وصراعات النفوذ بين الدول العربية نفسها.
الأجندات الدولية التي تستفيد من بقاء المنطقة مضطربة.
انعدام الثقة بين الأطراف المحلية والإقليمية والدولية.
السلام في الشرق الأوسط… خيار شعبي وإرادة تاريخية
على الرغم من كل الصعوبات، يبقى السلام هدفًا ممكنًا إذا ما اجتمعت إرادة الشعوب الحرة، وتخلصت من أدوات التفتيت الطائفية، وعادت لتضع القضية الفلسطينية في مركزها الوطني والقومي. التاريخ لا يرحم من يفرّط في وطنه، ولا ينتظر من الحكام أكثر مما يأمرهم به ضمير الشعوب. وفي النهاية، لا سلام إلا بعد عدالة، ولا عدالة إلا بعد حرية .