حميد الكفائي
عندما يطّلع أحدنا على أعداد وأنواع الأبحاث العلمية التي تنشر أسبوعيا وشهرياً وسنوياً في العالم المتقدم يصاب بالذهول. الأبحاث تطاول كل زاوية من زوايا الحياة، مهما كانت صغيرة وبعيدة عن الأذهان. فمن مدى استيعاب الأطفال لتعلم الموسيقى ودورها في فتح الأذهان إلى تعلم العلوم الأخرى، إلى احتمال تدهور البيئة بعد نصف قرن في قارة أميركا نتيجة الإفراط في زراعة الحبوب وتأثير ذلك على النظام الإيكولوجي فيها، إلى فوائد النسيان الذي كنا نعتبره سيئاً. الأبحاث تحيط بالإنسان الغربي من كل حدب وصوب، حتى الإنسان العادي يفكر بابتكار أشياء جديدة مفيدة، وكل شخص يبحث عن مجال يبدع فيه من أجل أن يستفيد عبر خدمة الآخرين. أفق الابتكار لا حدود له، والدول المتقدمة تنفق ما معدله 5 في المئة من موازناتها على الأبحاث العلمية، والجامعات ومراكز الأبحاث تغدق الأموال على الباحثين، وتوفّر لهم ما يريدون من تسهيلات، ليس بطراً وإنما لعلمها بأن لا حياة عصرية هانئة ولا تقدم حقيقياً يمكن أن يحصل من دون وجود أبحاث علمية تجدد الحياة وتكشف مواضع الخلل وتشير إلى الأفضل والأصلح والأكثر نفعاً.
يتوهم كثيرون في بلداننا بأننا لا نحتاج إلى الأبحاث العلمية لأننا «متأخرون أساساً ولا يمكننا أن نتفوق على الغربيين في أي شيء»! لذلك فإن علينا، وفق هذه النظرية، أن نوفر أموالنا وننفقها في أمور أخرى أكثر إلحاحاً، وننتظر من الغربيين أن يسعفونا دائماً بحلول لمشاكلنا. أي خطل يعتري هذا التفكير وأي خلل! الأبحاث مطلوبة في كل بقعة من بقاع الأرض بسبب اختلاف طبائع البشر والجغرافيا والاقتصاد والمناخ والثقافات. وعلى رغم وجود الكثير من المشتركات الحياتية بين الناس، إلا أن كثيراً من الأمور تختلف من بلد إلى آخر، بل كل بلد وكل مدينة وكل قرية لديها اهتماماتها وطبيعتها وحاجاتها ومشاكلها واقتصادها المتميز، وهي بحاجة إلى الأبحاث العلمية الرصينة المجردة من الأهواء والخرافات، الأبحاث التي تبين الحقائق ومواضع الخلل، وتنبه إلى الأخطار وتؤشر على الاحتمالات وتقترح الحلول.
جامعاتنا ومراكز أبحاثنا لديها مئات المجلات التي تُعنى بالعلوم والآداب كافة، وعلى رغم أن فيها أبحاثاً تُجاري الأبحاث العالمية الرصينة أو تقترب منها إلا أن فيها فضائح أيضاً، وليت القائمين عليها أدركوا أن البحث في بطون الكتب القديمة، ألم يمل هؤلاء (الباحثون) من النفخ في قربة مثقوبة؟ لماذا لا يوفرون الجهود والوقت والمال ويبحثون في القضايا التي يمكن أن تنفع المجتمع وترتبط بحياة الناس ومستقبلهم وصحتهم وتعليمهم ورفاهيتهم؟
هناك مسؤولية كبرى ملقاة على عاتق وزارات التعليم والجامعات ومراكز الأبحاث في العالم العربي، التي عليها أن توجه التلاميذ نحو دراسة العلوم في كل المجالات، والقيام بأبحاث نافعة ترتبط بحياة الناس ومستقبل البلدان واقتصادها وعلاقاتها الإقليمية والدولية والدور الذي يجب أن يلعبه كل منها، من الضروري أن تحث الجامعات الباحثين والأساتذة الراغبين في الحصول على الترقية على إجراء أبحاث جديدة وفيها إضافات حقيقية للمعرفة وليس اجترار القديم فقط من أجل نشر البحث والإيفاء بشروط الترقية والاستحقاق الوظيفي. جامعاتنا تشترط في الترقية أن يقوم الأستاذ بنشر بحث في مجال اختصاصه في مجلة علمية، لكنها للأسف تتساهل كثيراً في طبيعة الأبحاث المقدمة لها، ولا تهتم كثيراً إن كانت مفيدة أو ذات صلة بموضوع الاختصاص، وإن كان فيها جديد ونافع، بعض الأستاذة يختارون مجلات (متساهلة) في البلدان النائية كي (تساعدهم) في نشر أبحاثهم غير المتماسكة كي يحصلوا على الترقية الوظيفية في جامعاتهم المتساهلة في العادة وفق مبدأ (قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق)!
بلداننا ومجتمعاتنا بحاجة إلى أبحاث حقيقية في كل المجالات، وباحثين جادين مصممين على الإتيان بالجديد النافع، ووزارات التعليم والثقافة والصحة والصناعة والزراعة والإسكان والسياحة والتخطيط مدعوة لأن تنفق جزءاً مناسباً من موازناتها على الأبحاث الرصينة، وتقديم مكافآت مجزية لمن يتقدم ببحث جديد ومتماسك، بدلاً من الإنفاق على إيفاد الموظفين إلى الخارج للتفسح. اجترار الماضي والبحث في أحداث التأريخ وحروب بني أمية وبني العباس وكيف عبر العرب إلى الأندلس وفتحوها وكيف يمكن أن يستعيدوا أمجادهم الغابرة، وبطولات أبو زيد الهلالي وسيف بن ذي يزن والزير سالم واكتشافات زرقاء اليمامة ورحلات ابن بطوطة وابن فطومة ليست نافعة للباحثين أو متابعيهم ولن تأتينا بمفيد، بل ستضيع وقتنا وتجعل بعضنا يعيش في مدينة فاضلة متخيلة ويحلّق في عالم الأحلام التي لن تتحقق.
آن الأوان أن ينفق العرب على الأبحاث العلمية الرصينة المتعلقة بمستقبل بلدانهم ومجتمعاتهم واقتصاداتهم وبناهم الأساسية وطرق التعليم السائدة في مجتمعاتهم، وكيفية الاستفادة من التفاعل مع المجتمعات الأخرى، وكيف يمكن أن تذلل مشاكلهم، ومن الضروري أن تكون هذه الأبحاث علمية حقيقية وليست لتطييب الخواطر ورفع المعنويات وترسيخ الخرافات، فليس كل ما فعله الأقدمون ملائماً لعصرنا وعلينا التمسك به، دعونا نتعرف على الحقائق بعيداً عن المجاملات، فشعوبنا لم تعد بحاجة إلى رعاية أبوية في عصر الإنترنت وثورة الاتصالات والمعلومات، نحتاج لأن نستمع إلى العلماء ونتعرف على الحقائق ففي هذا مصلحة للجميع، حكاماً ومحكومين، من المعيب حقاً أن تبقى بلداننا تعيش على هامش الحضارة والمدنية خصوصاً وأنها تمتلك كل مقومات النهوض من علماء وجامعات وشباب يتطلع نحو المستقبل، وهو أهم بكثير من الماضي السحيق.