بواسطة ليوناردو جاكوبو ماريا مازوكو
عن المؤلفينليوناردو جاكوبو ماريا مازوكوليوناردو جاكوبو ماريا مازوكو، هو باحث متخصص في الشؤون الأمنية لمنطقة الخليج، وهو أيضًا محلل في مركز تحليلات دول الخليج، وهي شركة استشارية للمخاطر الجيوسياسية مقرها واشنطن. حصل مازوكو على درجة الماجستير في العلاقات الدولية المقارنة من جامعة كا فوسكاري في فينيسيا، كما حصل على درجة الماجستير الثانية في دراسات الشرق الأوسط من كلية الدراسات العليا للاقتصاد والعلاقات الدولية (ASERI) من الجامعة الكاثوليكية للقلب المقدس في ميلانو بإيطاليا.تحليل موجز
على الرغم من أن الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي قد تختلف حول عملية التطبيع مع سوريا، إلا أن الذاكرة الجماعية للنزاعات السابقة والرغبة في تحقيق الاستقرار الإقليمي قد تلقى بظلالها على الانقسامات الداخلية.
التقى وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود بالرئيس السوري بشار الأسد في 18 نيسان/أبريل في زيارة تاريخية أجراها إلى دمشق. وكانت تلك أول زيارة رسمية لأمير سعودي رفيع المستوى إلى سوريا منذ انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في عام 2011. تناول اللقاء عددًا من القضايا الشائكة، منها الحاجة إلى “تسوية سياسية شاملة للنزاع في سوريا” و”إعادة علاقات سوريا بمحيطها العربي وعودة اللاجئين والنازحين السوريين إلى بلدهم”.
وكان أن أعلنت الإمارات وقطر في اليوم عينه أن العمل جار بين البلدين لاستعادة العلاقات الثنائية الكاملة وإعادة فتح السفارتين. وفي حين أن حصار قطر الذي كان قد دام ثلاث سنوات ونصف من قبل مجموعة صغيرة من الدول بما فيها دولة الامارات العربية المتحدة انتهى رسميا في كانون الثاني/يناير 2021 بعد صدور إعلان العلا، احتاجت الإمارات وقطر إلى أكثر من عامين لاتباع عملية تطبيع دبلوماسي أكثر جوهرية.
وتأتي هذه التحركات لتحسين العلاقات الثنائية وسط مسعى إقليمي أوسع يهدف إلى ايصال الشرق الأوسط تدريجيًا، بعد مرور عقد حافل بالاضطرابات. إذ يجري في الوقت الحالي مساران مختلفان إنما متساويان بأهميتهما لجهود المصالحة في المنطقة، يضمّان الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي كأطراف رئيسية. حيث تعمل دول المجلس من جهة على تخفيف حدة التوترات مع منافسيها الإقليميين المتأصلين بغية تعزيز الاستقرار الدائم في الجوار المباشر لدول المجلس. ومن جهة أخرى، تتخذ الأنظمة الملكية في دول المجلس حاليا خطوات لتخفيف حدة التوترات الحالية ونزع فتيل الصدامات المستقبلية داخل معسكر الخليج نفسه.
ولعل عودة الرئيس السوري بشار الأسد إلى الحضن العربي حيث يتقاطع هذان المساران الدبلوماسيان تحمل معها تداعيات بعيدة المدى للاستقرار العام في الشرق الأوسط ونجاح عملية خفض التصعيد الحالية.
من تغيير النظام إلى احتضانه
علّقت الدول العربية عام 2011 عضوية سوريا في جامعة الدول العربية على خلفية القمع الوحشي الذي كان يمارسه نظام الأسد ضد الاحتجاجات في الشوارع، حتى أن البعض دعم مختلف الجماعات المتمردة المسلحة المصمِّمة على الاطاحة بنظام الأسد. وبعد التدخل العسكري الروسي الإيراني المشترك ومدّ شريان حياة للنظام، شرع الاسد في تحقيق انتصارات في حلب في أوائل عام 2017، واستعاد السيطرة على جزء كبير من البلاد تدريجيًا وعلى الرغم من كون صمود الأسد السياسي حقيقة مُرّة، فقد أمسى واقعًا متمثلًا في بلد مزقته الحرب.
ومع ذلك، لا يزال نظام الاسد قائمًا على أسس هشة، وكان لحلفاء سوريا، أي روسيا وإيران وحزب الله، ومنذ فترة طويلة، أهمية بالغة في ضمان النصر العسكري للنظام على الأرض. غير أنه ما بوسعهم القيام بالكثير لسدّ عجز الأسد الهائل في إثبات شرعيته وتمويل جهود إعادة الإعمار التي تبلغ الملايين. ومن ثم، يأمل الاسد في توسيع حلقة أصدقائه لضمان بقاء نظامه على المدى الطويل وسط العقوبات المعوقة والنبذ الذي يواجهه في جواره.
وكان قد فشل وزراء خارجية مصر والعراق والأردن كما ودول مجلس التعاون الخليجي، بعد اجتماعهم في جدة في 15 نيسان /أبريل لمناقشة مستقبل عضوية سوريا في جامعة الدول العربية، بالتوصل إلى توافق لرسم الطريق قدمًا، ما سلط الضوء على الاحتكاكات الكامنة في المعسكر العربي. كما صوّت مسؤولون رفيعو المستوى في اجتماع طارئ ومغلق لوزراء الخارجية العرب في 7 أيار/مايو في مقر جامعة الدول العربية في القاهرة لاستعادة سوريا مقعدها في الجامعة. وفي حين أنهى القرار إعادة التأهيل عزلة سوريا الدبلوماسية التي دامت 11 عاما ومهدت الطريق لمشاركة بشار في قمة الجامعة المقبلة في 19 أيار/مايو في المملكة السعودية، إلّا أنها لا تزال تعكس وجهة نظر مجزأة داخل الحظيرة العربية، حيث لم يحضر جلسة التصويت في الواقع من أصل الدول الأعضاء الـ 21 في الجامعة سوى 13 أعطوا الضوء الأخضر لاقتراح التطبيع.
استقطاب داخل الحظيرة العربية
وكانت قد بدأت السعودية في الأشهر القليلة الماضية، هي التي كانت ذات يوم من أكبر المؤيدين لتغيير نظام الأسد، تتوخى بحذر تحولًا جذريًا في سياستها تجاه سوريا على مدى الأشهر العديدة الماضية. وقد أكد وزير الخارجية السعودي في عدة مناسبات أن الدول العربية تتقارب حول فكرة تعزيز سبل الحوار مع دمشق وأن عزلة سوريا عن فضائها السياسي الطبيعي أثبتت عدم جدواها. وفي المحصلة، فإن زيارته الرسمية إلى دمشق في منتصف نيسان/أبريل لا تترك مجالا للشك حول تبدل الموقف السعودي بشأن الملف السوري. في نهاية المطاف، ومع موافقة المملكة العربية السعودية على استئناف الأنشطة الدبلوماسية وإعادة فتح سفارتها في دمشق في 9 مايو / أيار، قطع التقارب السعودي السوري خطوات كبيرة. ومن ثم، صار عدو الامس صديق اليوم، حيث سارعت كلا من السعودية وسوريا إلى استئناف العلاقات الثنائية الكاملة بينهما. علاوة على ذلك، يشير تحول المملكة إلى قيامها بإعادة حساباتها السياسية العملية تجاه الاسد، إلى إيمانها بفشل العزلة السياسية والاقتصادية. وها إذ بالرياض تسعى إلى تعزيز نفوذها على الرئيس بشار ملوّحة بغصن زيتون.
وعلى الرغم من أن المملكة تستفيد الآن من مصداقيتها الدبلوماسية الإقليمية القوية لتسريع عودة سوريا إلى الحظيرة العربية، إلّا أن الإمارات والبحرين كانتا قد أرستا الأساس لعملية التطبيع عبر إعادة فتح سفارتيهما في دمشق في أواخر عام 2018. ومنذ ذلك الحين، تحمل الإمارات معظم الأعباء الثقيلة لإعادة شرعية الأسد، وقد سعت كرأس حربة لحملة التطبيع إلى توسيع نطاق العلاقات الثنائية مع سوريا. وزار في هذا الصدد وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان دمشق في عدة مناسبات كما استقبل رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان الرئيس السوري بشار في أبوظبي مرتين منذ أوائل عام 2022. وتخبر كثافة العلاقات الدبلوماسية هذه بين القيادتين الإماراتية والسورية الكثير عن الدور المحوري الذي تؤديه دولة الإمارات في تولي زمام عملية التطبيع.
من بين دول مجلس التعاون الخليجي التي تسعى لإيقاف تقدم حملة التطبيع، تبرز قطر الأكثر صخبًا. ففي حين أنها لا تعارض الفكرة في حد ذاتها، إلا أنها تؤكد على أن الانفتاح الدبلوماسي المحتمل على الأسد يجب أن ينبع من تحسينات ملموسة يجريها النظام في التعامل مع جماعات المعارضة وأن يرتبط بإصلاح البنية السياسية الداخلية لسوريا. وترى الدولة القطرية أنّ الأسد لم يبذل أي جهود هادفة للتخفيف من قمعه العنيف للمعارضين وأن الظروف التي تدعو لنبذ حكومته ما زالت قائمة.
أما بالنسبة إلى الكويت، فمع أن موقفها كان أكثر اعتدالًا مقارنة بقطر، إلّا أنها أبدت أيضًا بعض التحفظات بشأن عودة الأسد إلى الحظيرة العربية. ومن ثم، بقي الملف السوري، نظرًا لتركيبته الديمغرافية الطائفية، قضية مثيرة للجدل إلى حد كبير في نظر الرأي العام الكويتي. فالكويت ليست لاعبًا جريئًا في سياسة منطقة الشرق الاوسط، إذ غالبا ما اعتمدت البلاد نهجًا معتدلًا في السياسة الخارجية وسعت إلى تحقيق مصالحها الاستراتيجية من خلال ابتغاء توافق في الآراء داخل المنظمات الإقليمية متعددة الأطراف، ومنها جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي ودول مجلس التعاون الخليجي. ولكن مع كسر السعودية للتعادل وتوليها المسؤولية الفردية عن إعادة تأهيل نظام الأسد، من المرجح أن تستفيد الكويت من ذوبان الجليد الحالي لاختبار ردود الفعل محليًا واقليميا بحذر.
وفي ما يتعلق بسلطنة عُمان، فقد اختارت مسقط موقفًا محايدًا تجاه الحرب الأهلية السورية واتبعت استراتيجية براغماتية تشدد على البعد الإنساني للصراع. وعلى خطى نظرائها العرب، قلصت عُمان تمثيلها الدبلوماسي في سوريا في عام 2012 إلاّ أنها امتنعت بشدة عن اتخاذ مواقف جريئة في ما يتصل بالشؤون الداخلية السورية ولم تقطع علاقاتها بالكامل مع دمشق. وباعتبارها كانت أول دولة في مجلس التعاون تعيد تعيين سفير لها في العاصمة السورية في أوائل تشرين الأول/أكتوبر 2020، أيّدت عُمان صراحةً إعادة سوريا إلى جامعة الدول العربية. كما تعكس الزيارة الرسمية التي قام بها بشار للسلطان العماني هيثم بن طارق آل سعيد في أواخر شباط/فبراير من هذا العام العلاقات الدافئة بين الزعيمين وتؤكد دعم عُمان لمساعي التطبيع.
ملامح جديدة لسياسة دول مجلس التعاون
ليس تباين الأولويات الاستراتيجية والسعي إلى تحقيق نتائج متعارضة بالأمر الجديد على المجلس. فقد شهدت دوله منذ بداياته في عام 1981 اختبارات عديدة شكلت تحديًا كبيرًا أمام صموده. ومع ذلك، لم تصل الاحتكاكات يومًا إلى نقطة اللاعودة، إذ لا يزال المجلس صامدًا ولم يشهد أي انشقاق بعد.
وفي حين أن قمة العلا لعام 2021 أنهت الخلاف الذي كان قد دام ثلاث سنوات في المجلس، إلا أنها ساهمت أيضًا في إعادة تشكيل ملامح السياسة الخليجية. فكان الترحيب بقطر مرة أخرى بمثابة بادئة لعهدٍ جديد لممالك الخليج في شبه الجزيرة ولو على نحوٍ غير رسمي، حيث بات النظام السياسي الجديد يعترف بحق كل دولة عضو في المجلس في اتباع سياسة خارجيتها المستقلة ويدين محاولات فرض وجهات نظر مهيمنة. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن أعضاء مجلس التعاون قطعوا أشواطًا كبيرة في تحقيق أسلوب تعايش دائم قادر على استيعاب مختلف الأجندات السياسية، إلا أنه ما زال يتعين القيام بالكثير للتغلب بالكامل على نقص الثقة الذي فرّقهم في الماضي.
ومع ذلك، فإن الجهود الرامية إلى إعادة بناء الثقة المتبادلة في الوسط الخليجي ما زالت في مراحلها المبكرة والخلافات التي لم تُحل حول القضايا الساخنة مثل التطبيع مع النظام السوري، قد يدفع ممالك الخليج إلى استئناف عاداتها التخريبية القديمة. فمن ناحية، تعكس الدبلوماسية الاستباقية للسعودية بشأن الملف السوري خلال الأشهر الماضية عزم المملكة على تعزيز مكانتها القيادية الإقليمية. وبما أن اتفاق التقارب السعودي الإيراني الذي توسطت فيه الصين ومحادثات خفض التصعيد مع الحوثيين يخففان العبء عن كاهل الرياض، فقد تنظر المملكة إلى الوضع الجيوسياسي الحالي على أنه مواتٍ لأداء دور سعودي أكثر حزم في سياسة العالم العربي. ومن ناحية أخرى، لا تزال قطر تنظر بعين الشك إلى التحركات الجريئة التي يقوم بها جيرانها الإقليميين. وبما أن الجراح الرمزية التي خلفها حصار 2017 بالكاد التأمت، فإن أي ضغوط باتجاه إملاء مواقف الهيمنة تثير ذكريات مريرة في ذاكرة الدوحة.
أظهر أعضاء مجلس التعاون الخليجي حتى الآن عزمًا كافيًا للتعامل مع المعارضة داخل المجلس بشأن مستقبل سوريا السياسي بشكل سلمي. ولا تزال قطر تحتفظ بمعارضتها الراسخة لتطبيع العلاقات الثنائية مع الأسد. إلا أنها تمتنع في الوقت عينه عن أداء دور الخصم ضد حملة التطبيع المدعومة من السعودية داخل الجامعة. من هنا يبدو أنّ دول الخليج تتعامل مع احتكاكات الملف السوري التي تبدو غير قابلة للتسكين بحذر وبراغماتية، مستفيدةً من دروس استقتها من نزاعات سابقة.
ماذا بعد؟
لا تزال شرعية نظام الأسد تقسّم بين دول مجلس التعاون. ومع ذلك، وبالنظر إلى الحقائق الجيوسياسية الحالية والموارد الدبلوماسية الكبيرة أصلًا التي سبق أن أُنفقت في سبيل رعاية ذوبان الجليد الإقليمي، وإلى الرغبة واسعة النطاق في تحقيق استقرار دائم، فمن غير المرجح أن نرى دول الخليج تدفع بالمعارضة حول مستقبل سوريا السياسي إلى أقصى الحدود وتهدد الوحدة التي استعادتها مؤخرًا داخل معسكر الخليج. ويبدو أن الرغبة المشتركة في بناء الأمن والاستقرار في بيئة إقليمية غالبا ما يهيمن عليها عدم يقين واسع النطاق، قد سادت على القوة الرافضة الخارجة عن النظام المركزي وعلى التفكير ذي المجموع الصفري، ما يعزز السمة الأكثر بروزًا للمجلس، ألا وهي قدرة أعضائه على الإبقاء على الحد الأدنى من الإجماع على المصالح المتبادلة.
ما زال نظام الأسد يعاني من عجز كبير في شرعيته على الساحة الدولية. ومع أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية لم تفعل الكثير لردع شركائها في الشرق الأوسط عن مد غصن الزيتون للأسد، لن يُبطل الغرب عقوباته إلا إذا اتخذ النظام خطوات ملموسة نحو حل سياسي للصراع الأهلي على أساس قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254.وفي حين تميل الدول العربية إلى الاستفادة من إعادة تأهيل نظام الأسد مؤخرًا لتأمين صفقات إعادة الإعمار المربحة وتوسيع نطاق التبادلات الاقتصادية مع سوريا، إلا أنها ستبقى معرضة بشكل كبير لهيكلية العقوبات الغربية. ونتيجة ذلك، سيحتاج أعضاء مجلس التعاون الذين اضطلعوا بدور نشط في إعادة تأهيل نظام الأسد إلى التحوط بعناية بين الانخراط المدروس في القضايا الرمزية وتوخي نهج الانتظار والترقب.
في النهاية، لا يمكن للديناميكيات التي أطلقتها موجة النشاط الدبلوماسي الأخيرة في الشرق الأوسط والتي تدل على عزم متزايد من قبل اللاعبين الجيوسياسيين الإقليميين على إعادة بناء الوسائلية في جوارهم، أن تتراجع. بينما لا يزال من غير الواضح إلى أي مدى ستكون الدول العربية قادرة وراغبة إعادة سوريا إلى الحضن العربي، حيث يوضح هذا المسعى الجماعي كيف دخل الشرق الأوسط على ما يبدو مرحلة جديدة حيث حلَّ الحوار المطمئن والتعاون متبادل المنفعة مكان المواجهة المباشرة والتزاحم العنيد. وفي حين لا تزال الآراء المتضاربة والتوترات الكامنة تمثل حقيقة رئيسية لسياسات دول مجلس التعاون الخليجي، كما يتضح من موقف قطر المتشدد المناهض للأسد، أبدت دول الخليج العربي عزمًا قويًا على نبذ الخلاف واتباع سياسة حسن الجوار مع جميع أعضاء مجلس التعاون الخليجي.