كفاح محمود
استفزتني الكاتبة المبدعة أحلام أكرم في عنوان مقالها بإيلاف حول مشكلة مجهولي النسب كمعضلة اجتماعية تعاني منها بعض البلدان، وبالذات مصر التي خصتها الكاتبة كظاهرة مدعمة بأرقام موثقة، وقد وفقت في طرحها كموضوع اجتماعي وشرعي مهم جدا، في بلد نعتبره القدوة والمرجع في تحدي المشكلات العويصة ووضع حلول لها، وكلي ثقة إن صوت الأستاذة أحلام أكرم سيطرق أبواب الأزهر الشريف وعلمائه الإجلاء، مثلما سيطرق أبواب قصر القبة حيث ينشغل فيه الرئيس عبد الفتاح السيسي كي لا يتركه لمنافسيه!
قلت استفزتني لأنها سحبتني إلى كارثة اكبر بكثير من مجهولي النسب اجتماعيا، لأنها بالتالي لن تؤثر كثيرا على مصير الشعب أو الأمة والدولة، مقارنة بكارثتنا التي أنتجتها ديمقراطية العشائر وفتاوي رجال الدين والمذاهب، وهذا الكم الهائل من مجهولي النسب السياسي الذين يقودون الدولة والمجتمع إلى النهاية الحتمية، خاصة وإنهم يتوالدون كالقطط الشباطية دونما توقف، ولا يعرف لهم شجرة للنسب السياسي منذ تم تأسيس المملكة العراقية وحتى وقبل سنوات، حيث اعتلى كراسي السياسة وملحقاتها من البرلمان والحكومة منذ نيسان 2003م أفواج من الفاسدين والنكرات التي استحوذت على كل شيء، في بلد مباح منذ تأسيسه للسراق والفاسدين إلا من رحمهم ربي، وهم قلة لا تخضع للقياس العام، أفواج تتكاثر وتقلد بعضها، بل وتبدع في تطوير أساليبها باستخدام حتى المقدسات الدينية، ناهيك عن تشويهها لتجربة في إدارة الحكم ( الديمقراطية ) ومحاولة اغتيالها بالاعتماد الكلي على الأديان والمذاهب والانتماءات القبلية، التي تفقد بين طياتها أي حرص جامع لانتماء وطني خالص، فانتشرت مجاميع اللصوص في كل مفاصل الدولة وزواياها الرطبة، حيث ورد للعراق خلال تسلطها على الحكم ما يزيد على ألف مليار دولار، كان بإمكانها أن تبني عراقين أو ثلاثة بمواصفات أوربية راقية، لكن اللصوص من رجال السلطة ومجهولي النسب السياسي حولوها إلى حساباتهم، بمشاريع وهمية وصفقات مريبة ابتداء من حقول الطاقة بما فيها الكهرباء والنفط وحتى الدفاع وصفقات الأسلحة والغذاء، ناهيك عما يجري في التعليم والصحة والميليشيات.
لقد أكدت قوائم الأحزاب التي أجازتها الحكومة ومفوضية الانتخابات والتي تجاوزت المأتي حزب سياسي، فيضان عارم من الأحزاب الكارتونية مجهولة الجذور والنسب السياسي، إلا اللهم من كان منها من إنتاج دوائر مخابرات أجنبية، أو انشطارات محلية لأحزاب رئيسية تستخدمها كواجهات لها، وفي كل الأحوال لا تمثل هذه الفيضانات من الأحزاب ظاهرة صحية بل تعكس مدى التناحر والهبوط السياسي، في دولة لم تتجاوز أحزابها الحقيقية منذ تأسيس كيانها السياسي قبل مائة عام أكثر من عشرة أحزاب رئيسية معروفة، لكنها نافورة الفوضى التي اعترت كل بلدان ما يسمى بعاصفة الربيع التي عجزت من تقديم بديل مقنع للمواطن الذي يدفع فاتورة هذه الفوضى، خاصة السياسية منها والإعلامية.
في بريطانيا العظمى حزبان رئيسيان ( العمال والمحافظين ) وثالثهما ( الأحرار ) منذ مئات السنين، وفي الولايات المتحدة الأعظم حزبان متنافسان منذ أزل تأسيسها ( الجمهوري والديمقراطي ) وهكذا دواليك في بقية الديمقراطيات، إلا في عراقنا الديمقراطي للعظم وبشهادة كل رجال الدين والمخاتير وشيوخ العشائر ورجال الأعمال المصنعين بعد 2003م حصرا، حيث إن مجهولي النسب السياسي والإعلامي أصبحوا ظاهرة اكتسحت العراق بعد نيسان 2003 ووصلت أعلى مستوياتها بعد صدور قانون الأحزاب، حيث انطلقت مجاميع من الطامحين للوصول إلى مغارة علي بابا والكنز المخزون، ولا عاب حلك أستاذنا الجليل والمرحوم محمد حسنين هيكل حينما وصفها بعصابات سطت على بنك لا صاحب له!؟