تعتزم تونس تعميم تجربة المحاكمات عن بُعد في إطار سياسة شاملة لوضع التكنولوجيا في خدمة العدالة والقضاء. وجرت الثلثاء الماضي أوّل محاكمة عن بُعد بالمحكمة الابتدائية بمحافظة سوسة 2 (وسط شرق)، بعد ربط قاعة المحكمة مع سجن حيث يقبع المتهمون. وقال وكيل الجمهورية بمحكمة سوسة 2 عبد الحكيم جمعة، إنّ جلسة المحاكمة الأولى عن بُعد نظرت في نحو 30 ملفاً، وأكّد أنّ ثمة توجّهاً مستقبلياً لتوسيع التجربة واعتمادها في معظم محاكمات المتهمين الموقوفين بالسجن. ووفق ما شرحه القاضي التونسي لـ”النهار العربي” فإنّ تجربة المحاكمة عن بُعد تمكّن القاضي من التواصل مع المتهمين القابعين في قاعة سجنية مجهزة عبر تقنية البث المباشر من خلال شاشة في قاعة الجلسات. وأوضح أنّه جرى تجهيز هذه القاعة بكل المعدات والتقنيات التكنولوجية الضرورية لاستنطاق المتهمين وتقديم المحامين لمرافعاتهم ثم التصريح بالأحكام بعد نهاية الجلسة في حضور المعنيين. محاكمة عادلةوأضاف جمعة أنّ هذه التجربة الرائدة لها الكثير من الإيجابيات، فمن جهة لا يتكبّد السجين عناء التنقل من السجن إلى المحكمة وتمضية يوم كامل هناك قبل العودة إليه مرة ثانية بعد انتهاء عملية التصريح بالحكم، ومن جهة أخرى تخفّف من الضغط على رجال الشرطة خلال نقلهم من السجن إلى المحكمة ذهاباً وإياباً، وما يتطلّبه ذلك من تأمين، كما أنّها تحفظ كرامة المتهم الذي لن يكون عرضةً للاحتكاك مع سجناء آخرين ولن تكون هويته مكشوفة أمام كل الحاضرين في الجلسة، وتمكّن أيضاً من جمع أكثر من سجين من سجون مختلفة. وفي السياق، أكّد أنّ الكثير من السجناء، وبعد رفضهم في البداية أن تحصل محاكمتهم عن بُعد رغبة في لقاء القاضي مباشرة، أنّهم راضون عنها. وأوضح جمعة “أنّ عدم وجود المتهم مع القاضي لا يمنع التواصل بينهما”. وأضاف أنّ هذه المحاكمات “تضمن شروط المحاكمة العادلة للمساجين بتأمين الاستنطاق صوتاً وصورة، والسماح للمحامين بالحضور، كما تمكّنهم من المرافعة، وتقديم ملاحظاتهم وطلباتهم طبقاً للقانون”. وكانت أصوات كثيرة خصوصاً من المحامين، رفضت هذا الشكل من المحاكمات مؤكّدة أنّه يضرّ بحقوق المتهم. ونظرت محكمة سوسة 1 التي كانت من بين أكثر المحاكم التونسية انخراطاً في هذه التجربة في أكثر من ألف قضية عن بُعد. وشدّد جمعة على أنّ “هذه المحاكمة تكفل كل مقومات المحاكمة العادلة وحماية المعطيات الشخصية وتسري عليها الإجراءات المطبّقة نفسها على وضعية المتهم الحاضر شخصياً في قاعة الجلسة، وتترتب عنها الآثار القانونية نفسها”. السعي نحو التعميموانطلقت تونس فعلياً في تجربة المحاكمات عن بُعد خلال فترة جائحة كورونا، فقد أجبرت الأزمة الصحية المؤسسة القضائية على التأقلم حينها مع الوضع الصحي.
وفي نيسان (أبريل) 2020، أصدرت الحكومة التونسية مرسوماً يمكّن القضاء من تنفيذ المحاكمات عن بُعد باستعمال وسائل الاتصال السمعي البصري المؤمّنة، وذلك بعد عرض الأمر على النيابة العامة لإبداء الرأي، شرط موافقة المتهم على ذلك، وأجاز المرسوم للمحكمة في حال الخطر، أو لغاية الوقاية من أحد الأمراض السارية، أن تقرّر العمل بهذا الإجراء من دون موافقة المتهم. ووفق المرسوم، يعتبر الفضاء السجني المجهز لغرض التواصل بين المحكمة والمتهم ومحاميه امتداداً لقاعة الجلسة، وتنطبق عليه القواعد المنظّمة نفسها لتسيير الجلسة وحفظ النظام بها، ومنع كل إخلال به وفقاً للقوانين، في حين يتمتع المتهم المودع بالسجن خلال محاكمته عن بُعد بكل ضمانات المحاكمة العادلة، وتسري على محاكمته الإجراءات المطبّقة نفسها على المتهم الحاضر شخصياً في قاعة الجلسة. وتواصل العمل في بعض المحاكم التونسية بعد انتهاء الأزمة الصحية في البلاد بتقنية المحاكمة عن بُعد إلا أنّ نسق التعميم كان بطيئاً. ويقول جمعة إنّ تعميم هذه التجربة يتطلّب تحضيرات واستعدادات لوجستية إضافة إلى تهيئة المتدخلين في العملية لدفعهم نحو تقبّلها والتأقلم معها. وتسعى تونس لتعميم المحاكمة عن بُعد في كل محاكمها حتى تصبح التقنية الوحيدة لمحاكمة السجناء، فيما لا يكون الحضور إجبارياً إلّا في قضايا يُحاكم فيها أصحابها بحالة سراح، وهو ما سيقلّص وفق جمعة “الضغط على المحاكم وكل العاملين في المرفق القضائي، إذ إنّها تمكّن من تسريع إجراءات المحاكمة وتقليل الجهد والوقت، والتخفيف من أعباء النزلاء ونقلهم لحضور جلسات المحاكمات”. وستشمل التجربة مستقبلاً الأطفال في الوحدات السجنية، ويقول القاضي التونسي إنّ ذلك سيساعد في حمايتهم ومنع اختلاطهم خلال عملية نقلهم لحضور المحاكمات بقاعة المحكمة مع منحرفين راشدين.