تسعى السلطات التونسية للحصول على قرض من المصرف المركزي التونسي لتمويل موازنتها، في خطوة فتحت الباب أمام جدل واسع بشأن ما يمكن أن ترتّبه من تداعيات على الاقتصاد التونسي بشكل عام وعلى المؤسسة المالية التونسية واستقلاليتها. وكشف نواب تونسيون عن تقديم السلطات التونسية طلباً للحصول على تمويل من البنك المركزي التونسي بقيمة 2.25 مليار دولار، وأكّدوا أنّ الحكومة طلبت “تمويلاً من البنك المركزي بقيمة 7 مليارات دينار من دون فوائد”، وهو طلب استثنائي لمرّة واحدة “على أن يبدأ سداده بعد 3 سنوات من الإمهال”. وعادة ما تلجأ السلطات في تونس إلى المصارف المحلية للحصول على تمويل للموازنة ودفع ديون خارجية مستحقة، وهي كثيراً ما كانت محل انتقاد من شريحة واسعة من خبراء الاقتصاد بسبب تداعياتها على السيولة المحلية. ويأتي طلب الحكومة التونسية لتمويل مباشر من المصرف المركزي بعد تعثر مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار. وكان من المتوقع أن يحلّ وفد من الصندوق في تونس نهاية العام الماضي، لكن السلطات التونسية أعلنت عن تأجيل الزيارة. ويشترط الصندوق جملةً من الإجراءات من بينها رفع الدعم، وهو ما يرفضه الرئيس قيس سعيّد بشدّة ويصفه بـ”الإملاءات الخارجية”. ضغوط بالجملةتواجه تونس ضغوطاً كبيرة بسبب عجزها عن توفير موارد لموازنتها في ظل ارتفاع حجم الديون التي ينبغي سدادها كل سنة، مقابل شح التمويلات الخارجية مع تفاقم أزمات المواد الأساسية وارتفاع نسبة التضخم. ويُذكر أنّ تونس مطالبة هذا العام بتسديد 4 مليارات دولار من الديون الخارجية بزيادة 40 في المئة عن 2023. وكانت وزيرة المالية التونسية سهام بن نمصية كشفت قبل أيام أنّ بلادها نجحت في دفع الديون المتوجبة عليها عام 2023 رغم شح التمويلات الخارجية، مؤكّدة أنّها ذاهبة إلى الإيفاء بتعهداتها الخارجية. لكن موازنة 2024 لم تعتمد على عائدات قرض صندوق النقد الدولي، للمرّة الأولى، وهو ما وضع الحكومة الحالية أمام تحدّي إيجاد موارد أخرى بديلة.

وفي العامين الأخيرين طلبت تونس تمويلات من المصارف المحلية في مناسبات عديدة، ذهب جزء منها لتسديد الديون الخارجية، وجزء آخر لدفع الرواتب، فيما خُصّص جزء ثالث لاستيراد مواد أساسية، وهو ما انتقده خبراء الاقتصاد، مؤكّدين أنّ ذلك يفرض ضغوطاً على سيولة هذه المصارف، معتبرين أنّ تونس باتت تقترض من أجل الاستهلاك في غياب مشاريع للتنمية. استقلالية البنك المركزي محل تساؤلويتزامن الطلب الحكومي الجديد مع موافقة مجلس الوزراء الأسبوع الماضي على مشروع قانون يسمح للبنك المركزي بتمويل الخزينة. وكثيراً ما أثار هذا القانون في تونس جدلاً كلّما طُرح في المجال العام. ويعبّر اقتصاديون عن مخاوفهم بشأن استقلالية البنك المركزي التونسي ومسألة النأي به عن التجاذبات السياسية، فيما كان الرئيس سعيّد نفسه من المنتقدين لها، وسبق له أن طالب بتعديل قانونه للسماح له بتمويل الخزينة مباشرة. وخلال زيارة لمقر البنك المركزي قال الرئيس التونسي في أيلول (سبتمبر) الماضي إنّ “المركزي مؤسسة عامة وليس مستقلاً عن الدولة”. في المقابل، كان محافظ البنك المركزي مروان العباسي من بين المعارضين لهذا الخيار، وقال في تصريحات سابقة إنّ “السيناريو الفنزويلي سيتكرّر في تونس”. ويشير كثيرون إلى تداعيات هذا الطلب على استقلالية البنك المركزي التونسي، ويؤكّد خبراء أنّ التمويل المباشر لموازنة الدولة سيرفع من مستوى التضخم في البلاد وينعكس على قيمة العملة المحلية، وسيؤدي إلى شح السيولة ويخلق أزمة للمصارف المحلية التي سبق وقلّصت مؤسسات دولية من تصنيفها. لكن في المقابل، يقلّل خبراء آخرون من حجم هذه المخاوف، ويعتبرون أنّها تثير جدلاً عقيماً، ويساند عدد منهم هذه الخطوة على أن تكون مشروطة. وفي السياق يرى الأستاذ الجامعي رضا الشكندالي في حديث لـ”النهار العربي” أن لا مانع من إقراض البنك المركزي للدولة، لكن ذلك “يجب أن يكون مشروطاً”. ويوضح أنّ الجدل بشأن استقلالية المصرف المركزي مغلوط، مضيفاً أنّ “الأهم هو كيف ستتعاطى الحكومة مع القرض الذي ستحصل عليه من المصرف؟ وما هي الأبواب التي ستُخصّص له؟ وماذا سيمول؟”. ويتابع: “إذا كان الأمر متعلقاً بدفع عجلة التنمية والاستثمار وتوفير موارد جديدة، فهذا أمر جيد للغاية وسيساهم في تقليص التضخم، أما إذا خُصّص فقط للاستهلاك وخلاص الديون، فإنّ ذلك سيزيد من حجم التضخم في البلاد”. بدوره، طالب الخبير الاقتصادي عبد الجليل البدوي بعملية مراجعة للمنوال التنموي، مؤكّداً أنّ ذلك سيساعد في التخلص من التبعية لصندوق النقد الدولي. وأشار في تصريح سابق لـ”النهار العربي” إلى أنّ تونس تبنت في العقود الأخيرة اقتصاد الاستهلاك على حساب التنمية، وهو ما كان من بين أبرز أسباب أزمتها الاقتصادية المركّبة، وفق تقديره. وفي عام 2021 تجاوز التضخم في تونس للمرّة الأولى نسبة من رقمين، ما دفع البنك المركزي للتدخّل من خلال رفع قيمة الفائدة المديرية في 5 مناسبات، ليقع تقليص النسبة إلى حدود 9 في المئة بحسب آخر الأرقام.