مدى مراعاة الإسلام للتفكير العلمي

1

د.عمار علي حسن
 
يدعو القرآن الكريم و إلى التثبت من كل خبر، ومن كل ظاهرة، ومن كل حركة أو موقف، قبل الحكم عليه، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: “وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا” (الإسراء: 36).
وقد محا القرآن مجال الوهم والخرافة في عالم العقيدة ولم يترك مجالاً للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والمعاملة، ولم يدع فرصة لشيوع الأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم.
ويُعلي القرآن من قيمة ومكانة التجريب، وحين فهم المسلمون هذا كانوا سادة التجارب، فصنعوا حضارة لم تجعل العلم خصيما للدين، مثلما كان في أوروبا خلال القرون الوسطى. وقد راحت هذه الحضارة تقدم عطاءها إلى الأوروبيين، وتأخذهم بأيديهم إلى طريق التفكير العلمي، وتؤثر في حياتهم بمختلف جوانبها، لكن التأثير الأكبر هو في تكوين تلك الطاقة التي صنعت ما لعالمنا الحديث من قوة فائقة في العلوم الطبيعية.
ويؤكد جورج سارتون في كتابه العمدة: “تاريخ العلم والإنسية الجديدة” هذا الأمر قائلا: “إن تعداد الإضافات الإسلامية كحصيلة علمية فريدة لا يتسع المقام لها في هذا الكتاب ولوتعمدنا أقصي درجات الإختصار فعلماء هذا الدين قد خلق آثاراً أعظم مما تركه اليونانيون بكثير، وكان التفوق الإسلامي كاسحا وبخاصة في القرن الحادي عشر بحيث نستطيع أن ندرك منه السبب في كبرياء العقل المسلم. ومن السهل علينا أن نتصور نحاريرهم إن يتكلموا عن نهج الغربيين، بنفس الصيغة التي يتكلم بها علماؤنا عن المشارقة الآن .. أما إذا كان قد وجد من المسلمين من له إلهام بعلم الوراثة وتحسين النسل، فربما نزعوا إلي تعقير النصاري الغربيين واليونانيين، تطهيرا للإنسانية من تخلفهم وانحطاطهم”.
وكان القرآن الكريم بمنهجيته ذات الطبيعة الإستقرائية التجريبية هو الملهم الأساسي لعلماء المسلمين، فهو حين عالج قصص الأنبياء وما جرى لبعض الناس قبل رسالة محمد (عليه الصلاة والسلام) فقد فعل هذا بطريقة حسية. وحين صور الجنة والنار قدم لنا المحسوسات القريبة من عقولنا وخبرتنا الحياتية.
وحين سئل الرسول عليه الصلاة والسلام عن الروح، قال له الله تعالي:”قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي”، وكذلك حين قدم توصيفا وتحليلا للإنسان قبل أن يكون جنينا في بطن أمه وحتي يهرم ويموت.
وهنا يقول د. سعيد إسماعيل علي وهو واحد من كبار التربويين العرب: “المنهج الإسلامي هو منهج علمي بمفاهيمنا الحالية عن البحث العلمي، كذلك هو منهج يقوم علي الاستقامة العلمية والموضوعية، بعيد عن التمذهب والتعصب في مضمونه وشكله وترجع تلك السمات إلي طبيعته الربانية التي تحيط بوسائل وأهدافه، وتجعل القصد منه خالصاً لله تعالي وذلك بخدمة الشريعة ومن هنا يخدم الإنسانية شرحا وتفسيرا ودراسة وبحثا وتعلما وتعليما وإذاعة ونشرا” .
وقد نظر القرآن إلى المعرفة علي أنها رغبة فطرية أودعها الله في الإنسان لتكون إحدي أدواته للقيام بعمارة الأرض والعلم، وجعل لأهل العلم مكانة بين الناس وفضلا عليهم، وهو ما تبينه الآيات: “قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ” (الزمر:9) و”يرفع الله الذي أمنوا منكم والذين أوتوا العلم دراجات والله بما تعلمون خبير” (المجادلة:11) و”وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا” (طه:114) و “إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء” ( ) وأول آية نزلت في القرآن هي: “اقرأ بأسم ربك الذي خلق” (العلق:1).
ولفت هذا انتباه ابن خلدون فأورد في مقدمته تحت عنوان “العلم والتعليم الطبيعي في العمران البشري” ما يفيد باقتناعه بأن طلب المعرفة شيء فطري في الإنسان، فقال: “إن الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات في حيوانيته من الحمي والحركة والغذاء وغير ذلك، وإنما تميز عنها بالفكر الذي يهتدي به، لتحصيل معاشه والتعاون عليه بأبناء جنسه، والإجتماع المهيئ لذلك التعاون، وقبول ما جاءت به الأنبياء عن الله سبحانه وتعالي .. فهو مفكر في ذلك كله دائماً، لا يفتر عن الفكر فيه طرفة عين، بل اختلاج الفكر أسرع من لمح البصر، وعن هذا الفكر تنشأ العلوم والصنائع المختلفة، ثم لأجل هذا الفكر ما جبل عليه الإنسان بل الحيوان من تحصيل ما تستدعيه الطباع، فيكون الفكر راغباً في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات، فيربح علي من سبقه بعلم أو زاد عليه بمعرفة أو إدراك او أخذه ممن تقدمه من الأنبياء الذين يبلغونه لمن تلقاه فيلقن ذلك عنهم ويحرص علي أخذه وعلمه، ثم إن فكره علمه ونظره يتوجه إلي واحد واحد من الحقائق، وينظر ما يعرض عليه لذاته واحداً بعد آخر، ويتمرن علي ذلك حتي يصير إلحاق العوارض علي الحقيقة ملكة له فيكون حينئذ علمه بما يعرض عليه لتلك الحقيقة علماً مخصوصاً.. وتتشوق نفوس أهل الجيل الناشئ إلي تحصيل ذلك، فيفزعون إلي أهل معرفته ويجئ التعليم من هذا، فقد تبين بذلك أن العلم والتعليم طبيعي في البشر”.
وطريق العلم في الإسلام مستمر لا ينتهي، فهو منهاج قبل أن يكون نتيجة مقطوعاً بصوابها وهو ثيار متدفق كل موجة فيه تتبعها موجة في حركة تدوم ما دام للعقل نشاطه. وفي هذا الشأن هناك قول منسوب للرسول (عليه الصلاة والسلام) يقول: “لا يزال الرجل عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل”.
وبذا فإن طلب العلم “فريضة” على كل مسلم، فتعلم علوم الدين “فرض عين” وعلوم الدنيا “فرض كفاية”، وفق ما رأى الفقهاء، وكلاهما شئ واحد، لأنهما يصبان في النهاية في تحقيق استخلاف الإنسان في الأرض وعبوديته لله تعالى.
والذين نظروا في رؤية الإٍسلام للعلم والمعرفة خلصوا إلى عدة سمات، منها: الشمول، أي طلب علوم الدين والدنيا، والاهتمام بالظاهر والباطن معا، وربط العلم بالعمل. وفي هذا يرى ابن قدامسة المقدسي أن العلم اعتقاد وفعل وترك، أي يقوم علي التصديق ثم النظر والاستدلال، فالإعتقاد يجب بحسب الخواطر، والترك بحسب ما يتجدد من أحوال (فمثلا لا يجب علي الأعمي تعلم ما يحرم النظر إليه)، وهو عملي، إذ لا يكون الرجل حكيماً حتي يجمع بين العلم والعمل.
وهنا يضع ابن عبد ربه عدة خطوات تربط العلم بالعمل، حيث رأى في كتابه ذائع الصيت “العقد الفريد” أن المعرفة تبدأ بإدراك الحواس، وتتدرج من هذه البداية الضرورية، بحيث تنتقل من المحسوس إلي التصور الذهني، ومن التصورات الذهنية وما يربط بينها يكون ما نسميه فكراً، والفكر مثيرا للإرادة، وما دامت الإرادة قد أثيرت فلابد من الأخذ بأسباب العمل، والعلم علمان: علم حُمل، وعلم استعمل، ومجرد حمل العلم بغير استعماله أمر لا طائل من ورائه، بل إنه مجلبة للضرر، ولا بد لكي يكون العلم جديراً باسمه هذا أن ينتقل من مرحلة التحصيل إلي مرحلة التطبيق.
ويعلمنا القرآن الكريم أن حمل العلم دون عمل، لا جدوى منه، في الآية الكريمة التي تقول: “مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً، بئس مثل القوم الذين كذبوا بأيات الله، والله لا يهدي القوم الظالمين” (الجمعة: 5).
ولا يقتصر العلم في نظر الإسلام على “الوحي” أي الرسالات السماوية، إنما هو أيضا “علم العقل”، الذي يقوم على التفكير والحدس، وهو في الحالتين علم يبتغي الخير أو تحقيق ما يفيد الناس، وحسب قول الرسول: “علم يُنتفع به”.
ومع كل هذا فإن المتطرفين والمتشددين والمتزمتين وطارحي الإسلام كعقيدة سياسية يتصرفون طيلة الوقت وكأن الإسلام قد عادى العلم، وخاصم العقل، لأنه في مصلحة هؤلاء ألا يفكر الناس ويتدبروا، حتى ينساقوا وراءهم طائعين.

التعليقات معطلة.