ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
وطئتُ لندن للمرة الأولى عام 1967، للتدريس في معهد كوين ماري. كانت الرحلة في مترو الأنفاق من إيرلز كورت إلى الجامعة تستغرق ساعة كاملة في الذهاب، وأخرى في الإياب، كنت أستغلّها لتحضير الدروس وتصحيح مسابقات الطلاب. يومها اكتشفت أنني أعشق التدريس، ولم أكن فاشلاً فيه وأنني كنت أتعلّم كثيراً من المطالعة، مثل ذلك البحث الطويل الذي وضعه سارمينتو عن الثائر الأرجنتيني كيروغا، الذي منذ ذلك الوقت أصبح من الكتب التي لا تفارقني.
كانت لندن في تلك الأيام تختلف كثيراً عن باريس، حيث كنت أمضيت السنوات السبع السابقة، وحيث كان الحديث يدور حول الماركسية والثورة، والدفاع عن كوبا ضد التهديدات الإمبريالية، والقضاء على الثقافة البرجوازية واستبدال أخرى بها، عالمية، يشعر المجتمع بأسره بأنه ممثل فيها. أما في بريطانيا فلم يكن الشباب يكترثون للأفكار والسياسة، وكانت الموسيقى تدير دفّة الحياة الثقافية، مع البيتلز والرولينغ ستونز، والماريوانا والأزياء الصارخة، والشعر الطويل، وعبارة «هيبيز» التي دخلت معجم المصطلحات الدولية. أمضيت الأشهر الستة الأولى في أحد الأحياء النائية والهانئة الذي كان يعجّ بالآيرلنديين: كريكلوود، ثم انتقلت إلى منزل في وسط العالم «الهيبي»، فيلادلفيا غاردنز، في إيرلز كورت. كان معشرهم لطيفاً وهادئاً، وأذكر أنني ذات يوم سألت صبية لماذا كانت تسير حافية، فأجابتني: للتخلّص من عائلتي دفعة واحدة!
كنت أمضي العشايا التي لا أدرّس فيها على مقاعد قاعة المطالعة في المكتبة البريطانية التي كانت موجودة يومذاك في المتحف البريطاني، أتابع كتابة «أحاديث في الكاتدرائية» وأقرأ من أعمال إدموند ويلسون، وأوريل، وفيرجينيا وولف… وأخيراً فولكنير وجويس بالإنجليزية. معارفي كانوا كثيرين وأصدقائي قلة، من بينهم هيوغ توماس وكابريرا إنفانتي الذي كان جاء ليقيم على بعد أمتار من منزلي بمحض الصدفة. في العام التالي انتقلت للتدريس في كينغز كوليدج، على مقربة من سكني، حيث زادت ساعات عملي ومعها راتبي.
في تلك الفترة كان إعجابي شديداً بإنجلترا، وكنت قد بدأت رحلة التخلي عن معتقداتي الاشتراكية والتحوّل إلى الفكر الليبرالي. وقد زاد ذلك الإعجاب مع مرور الوقت بفضل الإنجازات الاستثنائية التي حققتها مارغريت تاتشر على رأس الحكومة… وكنت آنذاك منكباً على قراءة هايك، وبوبير، وإسحق برلين، وبشكل خاص آدم سميث. ذهبت إلى كيركالدي حيث وضع مؤلفه الشهير «ثروة الأمم»، وحيث لم يكن قد تبقّى من منزله سوى جدار صغير ولوحة تذكارية، وفي المتحف المحلي غليونه وبعض القرطاسية. لكن في إدنبرة، أتيح لي أن أضع باقة من الزهور في الكنيسة التي تضمّ رفاته، وتنزّهت في الحي الذي كان سكانه يشاهدونه متسكعاً في سنواته الأخيرة، بعيداً عن العالم، بخطواته الطويلة ومنغمساً في تأملاته.
لم يكن عندي تلفاز في المنزل حيث أقمت أواخر ستينات القرن الماضي من دون مذياع، وكنا نخرج للسهر مرة واحدة في الأسبوع، عادة أيام السبت، إلى السينما أو المسرح، لأن السيدة التي تأتي للعناية بالأطفال كانت مكلفة جداً. لكن رغم ذلك الضيق، أعتقد أننا كنا سعداء جداً، وأنه لولا كارمن بالسيلز كنا لا نزال إلى اليوم في لندن، وكان ولداي وابنتي يحملون الجنسية الإنجليزية. لكنني على يقين من أنني في تلك الحالة كنت سأعارض حملة «بريكست» وأناضل ضد هذا الخطأ الفادح.
كنت على علاقة جيدة مع رئيسي في كينغز كوليدج، البروفسور جونز المتخصص في العصر الذهبي الإسباني. وفي نهاية ذلك العام الأكاديمي عرض عليّ أن أحل ّمرة في الأسبوع مكان أستاذ يدرّس الإسبانية في كمبردج، وقبلت العرض بمسرّة كبيرة. وما هي إلا أسابيع قليلة حتى دقّت باب منزلي كارمن بالسيلز.
كان قد عرّفني عليها كارلوس بارّال في برشلونة، وقال لي إنها يمكن أن تتولى تسويق أعمالي في الخارج. وأخبرتني كارمن بالسيلز بعد ذلك أنها تخلّت عن عملها في دار بارّال للنشر، لأن مهمة الوكيل الأدبي هي الدفاع عن حقوق الكتّاب وليس عن مصالح الناشرين. هل كنت راغباً في أن تكون هي وكيلي الأدبي؟ بالتأكيد.
لكن ما الذي حملها يومذاك إلى لندن؟ جئت لرؤيتك، قالت لي، ثم أردفت: «أريد منك أن تتخلّى فوراً عن التدريس في الجامعة، وعن إنجلترا، وأن تأتي برفقة أسرتك إلى العيش في برشلونة. كينغز كوليدج تستغرق منك الوقت الكثير، وأؤكد لك أنه بوسعك كسب رزقك من كتبك، وأنا أتكفّل بذلك».
انفجرت ضاحكاً عند سماعي ذلك الكلام، وسألتها إن كانت قد فقدت صوابها. أن أكسب رزقي من كتبي كان ضرباً من الخيال، لأن الكتاب كان يستغرق مني سنتين أو ثلاثاً، وإذا اضطررت لكتابته في ستة أشهر لتأمين القوت لأسرتي، فلن يقبل أحد على قراءته. يومها لم أكن قد اكتشفت بعد أن كارمن عندما تصمم على أمر لا بد من التجاوب معها أو التخلص منها. ولم تكن واردة معها الحلول الوسط. أذكر أننا تناقشنا ساعات طويلة، وأخبرتني بأن غارسيا ماركيز أصبح في برشلونة، يعيش من كتبه، وأنها كانت سافرت إلى المكسيك لإقناعه بذلك، وأنها لن تغادر منزلي حتى أوافق على عرضها.
أنهكتني. هزمتني. وفي عصر ذلك النهار ذهبت لرؤية البروفسور جونز كي أقول له إنني ذاهب إلى برشلونة، وإنني سأحاول الارتزاق من كتبي. كان رجلاً بالغ التهذيب، ولم يبادرني بالقول إنني أبله لإقدامي على قرار من هذا النوع، لكنني قرأت ذلك في نظراته.
لست نادماً على تجاوبي مع رغبة كارمن بالسيلز وطلبها، لأن السنوات الخمس التي أمضيتها في برشلونة من عام 1970 إلى عام 1974 كانت رائعة. هناك شهدت ابنتي مورغانة النور، وكنت شاهداً على ولادتها. وقد تحولّت تلك المدينة، بفضل كارمن بالسيلز وكارلوس بارّال، عاصمة للأدب الأميركي اللاتيني لفترة طويلة، وفيها عاد كتّاب إسبانيا وأميركا الإسبانية إلى التلاقي بعد فراق امتد منذ الحرب الأهلية الإسبانية. أمضينا تلك السنوات في هذه المدينة المتوسطية الجميلة، لا يمكن أن ننسى ذلك الحماس الذي شعرنا به عندما وصل الحكم الديكتاتوري إلى نهايته، وعرفنا أن المجتمع الديمقراطي المقبل سيكون فيه للثقافة الدور الأساسي.
حتى الآن لم تكرّم إسبانيا كارمن بالسيلز كما تستحق. هي التي قررت وحدها أن برشلونة، بدور نشرها الكبيرة، وتقاليدها الثقافية العالية، يجب أن تضمّ عدداً كبيراً من كتّاب أميركا اللاتينية، إلى جانب الكتّاب الإسبان، وأن تجمع ثقافة اللغة الواحدة على أرض ثقافية واحدة. ولم يتأخر الناشرون في التجاوب معها بعد أن أقنعت كثيرين مثلي بالانتقال إلى برشلونة التي راح يتوافد إليها الكتّاب الشباب، كما كانوا يتوافدون من قبل إلى باريس حيث كانوا يطلقون العنان لخيالهم الروائي أو الشعري أو الفني أو الموسيقي.
منذ «بريكست» خرجت بريطانيا من ذاكرتي وشعرت بخيبة عميقة. لكن هذه الأيام، ولعله بسبب تقدمي في السن، ساورني الحنين لتلك السنوات التي أمضيتها هناك، وتذكرت ذلك الشاعر البرازيلي الذي وصف لندن ذات مرة بالمدينة الهائلة والحزينة، وقال عن نفسه: «حزيناً ذهبت إليها، ومنها عدت أكثر حزناً».