نتانياهو المتهم بالفساد لن يرفع الراية البيضاء
أوصت الشرطة الإسرائيلية، الإثنين الماضي، بتقديم لائحتي اتهام بدعوى خيانة الأمانة وتلقي الرشوة في ملفيّن من مجموعة أربعة ملفات فساد تحقق فيها. مهما يكن من مصير هذا الحدث فإنه يُشكّل ضربة لا يُستهان بها لنتانياهو وحكومته ولمعسكر اليمين الإسرائيلي. وتُصبح الضربة جدّية في حال قررت النيابة العامة الإسرائيلية اعتماد توصيات الشرطة والذهاب بها إلى المحكمة. فمن المعمول به في إسرائيل وبناء على القانون الدستوري والعُرف القضائي أن يستقيل المسؤول الحكومي ـ وهو هنا رئيس الحكومة ـ في حال تمّ تقديم لائحة اتهام ضده.
التوصيات الآنفة الذكر هي في ملفّي فساد من مجموع أربعة ملفات تتصل بعلاقات نتانياهو بأوساط رأس المال لجهة صفقات تبادل مصالح وموارد. في الأولى ـ تلقي «هدايا»/رشوة من أحد الأثرياء مقابل التدخل مباشرة أو في شكل غير مباشر لتسوية مصالحه. في الثانية ـ التدخّل لمصلحة أكثر الصحف انتشاراً من حيث تزويدها بالإعلانات التجارية من جهات حكومية وغيرها، وترتيب مصالحها مقابل اعتمادها خط مدافع عن نتانياهو وموالٍ له. أما الملفّان الآخران المفتوحان لدى الشرطة فيتصل الأول بتدخّل نتانياهو في شكل غير قانوني لمصلحة مالك شركة الاتصالات الهاتفية الأكبر في الدولة، ومن خلال تشريعات تسهّل على الشركة جني الأرباح وترتيب مصالح تجارية لها، ويتّصل الثاني بموقع إعلامي اعتمد سياسات إعلامية موالية لنتانياهو مقابل التسهيل على أعمال مالكه. وهناك ملفّ خامس جارٍ التحقيق فيه حول اقتناء إسرائيل غواصات ألمانية من إنتاج شركة سمينس. وهناك إشارات إلى أن التحقيق سيطاول رئيس الحكومة في مرحلة لاحقة منه كما سرّبت الصحافة الإسرائيلية.
والآن إلى الاحتمالات في الساحة السياسية الإسرائيلية من هذه المنعطف. غير خاف على أحد أن خصوم نتانياهو معنيون جدًا بأن يسقط نتانياهو من خلال كشف تورّطه «العميق» في قضايا فساد وتقديمه إلى المحاكمة. ويُشيرون إلى أن سابقه، في رئاسية الحكومة، إيهود أولمرت حوكم ودين بتُهمة فساد كلّفته منصبه وحكومته. بمعنى أنهم يستندون إلى العُرف الإسرائيلي الدستوري والرسمي الذي تمّ تطبيقه في العديد من الحالات بخاصة عندما تورّط وزراء في قضايا فساد وتمت إدانتهم. هذا يعني أن الأمر وارد من ناحية نظرية ومن ناحية عملية في حال تمّ تأكيد التوصيات بلائحتي اتهام من النيابة العامة بتهمتين أساسيتين وهما خيانة الأمانة وتلقي الرشوة. وسيكون الأمر في حكم الضربة القاضية إذا تمّ تقديم لائحتي اتهام في القضيتين الثالثة والرابعة وتدحرج القضية الخامسة ـ الغواصات الألمانية إلى لائحة اتهام.
مع هذا علينا أن نكون حذرين تماماً في الذهاب وراء المتفائلين من خصوم نتانياهو. فقد ظهر فور إعلان توصيات الشرطة ليدافع عن نفسه ويُنكر كل شيء. وليُراهن على مبدأ أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. لكن هذا الظهور في معناه يتعدى ما جاء فيه من حديث لأنه يُمثّل النهج الذي يعتمده نتانياهو وأوساط اليمين حوله لِجِهة إدانة كل السلطات الإسرائيلية المكلّفة تطبيق القانون في شكل مسبق. فكل هذه الجهات تتعرض منذ سنوات لهجمات إسقاط شرعية عن عملها في كل مرة تسائل الحكومة أو نتانياهو أو تضعه موضع شك في قضايا فساد أو فشل إداري حكومي. لم يسلم من هذه الحملات لا جهاز القضاء ولا التشريعات نفسها ولا المستشار القضائي للحكومة ولا الشرطة ولا الجيش ولا جهاز الأمن العام ولا الإعلام ولا منظمات حقوق الإنسان وتلك المعنية بالإدارة النزيهة لمؤسسات الحُكم.
هذا يعني أن اليمين في إسرائيل ممثلاً بنتانياهو لن يرفع الراية البيضاء ولن يسلّم أوراقه ويتنحى. فلديه خياران قد يعتمدهما منفردين أو مجتمعين. فقد يلجأ إلى حلّ الحكومة الحالية واللجوء إلى انتخابات مبكرة قبل أن تتحوّل توصيات الشرطة إلى لوائح اتهام تُجبره على التنحّي. في هذه الحالة سيقول، ربّما، إن ما فعلته ليس صحيحاً من الناحية الأدبية لكن هيا نُعطي الشعب أن يحسم في الأمر! ساعتها سيُراهن مرة أخرى على خطاب الشحن اليميني ليكسب الجولة الانتخابية المُبكرة عِلماً أن الأمر لن يكون سهلاً.
الخيار الثاني، وهو وارد أيضاً، هو أن يرفض نتانياهو واليمين نتائج التحقيقات من أولها لآخرها ويتمسكوا بالحكم خارج كل الأعراف والأحكام الدستورية. بمعنى أن هذا اليمين ـ كأي يمين قومجي على حافة الفاشية ـ يُمكن أن يرفض سلطة القانون التي يعمل استناداً إليها ويعلّقها تماماً قاصداً خلق أزمة حكم يكون هو المتفوّق فيها كونه الممسك بزمام الأمور. سيناريوات كهذه وردت كثيراً في الأدبيات الإسرائيلية أبان الأزمات بخاصة في ما يتصل بتسوية الصراع مع الفلسطينيين. بل هناك اعتقاد راسخ في أوساط التقدميين في إسرائيل والأوساط الملتزمة الديموقراطية بأن الخطر على الديموقراطية في إسرائيل جاء دائماً من جهة اليمين ومن أطرافه الراديكالية.
وقد يدمج بين الخياريْن الأول والثاني لمنع أي معسكر بديل من تسلّم السلطة. أقول هذا لأن اليمين الإسرائيلي بكل تياراته مشغول من عشر سنوات على الأقلّ بإدخال تعديلات وسن قوانين هي في مؤدّاها تمنع أي تداول على السلطة وتكرّس حُكم اليمين الاستيطاني المتحالف مع القومجيين العلمانيين والمتدينين على السواء. بل قد تكون التطورات في ملفات الفساد حجة اليمين لافتعال الأزمة وأخذ إسرائيل الدولة والمجتمع رهينة.
ونُشير في هذا الصدد إلى أن نقطة المنعطف الأساسية التي أنشأت هذا المناخ هي اغتيال رئيس حكومة (إسحق رابين ـ 1995) بتهمة التنازل عن أرض إسرائيل وخيانة شعبه. منذ ذلك الحين نرى صعوداً وتوسّعاً للنزعات اليمينية القائلة بضرورة فرض السيادة الإسرائيلية على كامل التراب الفلسطيني وإنهاء الاحتلال لجهة ضمّ المناطق المحتلة كلها.
في إسرائيل اليوم ـ هناك احتمال حصول انعطاف ناحية اليمين وتعطيل مؤسسات الدولة والقبض على مفاصلها بأيدي اليمين الإسرائيلي المتنفّذ في حال لم ينجُ نتانياهو من لوائح الاتهام. والحملة الرسمية من رئيس الحكومة والوزراء ضد الشرطة في الأيام الأخيرة تدلّ على جهة الريح ـ التصعيد والتصعيد إلى آخر الشوط!