مقالات

مرفأ الروح

 
أسماء الفاضل
 
للعزلة اليوم حاجة ماسة تحتم على كل أحد منا أن يجعلها طقسا من طقوس حياته، لقد اعتزل محمد صلى الله عليه وسلم قومه خوفاً ونأياً عن جاهلية قومه وبذاءة بعضهم، فلجأ إلى الغار ليمضي وقته متأملاً في ملكوت خالقه، مبدداً مخاوفه بتساؤلات عن كنه هذا الكون وعن الذي صنعه وأنشأه وهو يعلم في حقيقة خلده أن لديه ربا لا شريك له، فأوحى الله إليه بكلماته وكتابه وفضله على العالمين ليكون رسولاً يبلغهم رسالة ربهم، أنبياء آخرون اعتزلوا أهليهم وأقوامهم، لقد كانت العزلة لأنبياء الله أمراً ربانياً، وفي كل عزلة يأمرهم بها يتجلى لهم نور الحق ويبصرون عدالته وينالون كرمه ورضوانه.
 
 
وعلى مرّ التاريخ اختار كثير من العظماء أن يبتعدوا عن الصخب ليتأملوا أنفسهم ويطلقوا طاقاتهم الإبداعية وعبقريتهم الملهمة ثم يقدمونها كنوزا للبشرية، إذ لم يكن الأنبياء وحدهم الذين لجأوا إلى العزلة وسلكوا طريقها، بل لدينا -على سبيل المثال- انشتاين وإسحاق نيوتن وبيل غيتس وغاندي والعقاد وآخرون كثر.
 
أن تعتزل الناس يعني أن تبحث عن نفسك التائهة في زحام الماديات والمجاملات، أن تنأى بنفسك عما لا يستحق أن تنفق عليه وقتك واهتمامك، أن تعتزل العالم يعني أن تسمو بلذة المناجاة عن تفاهات لا تليق بك، أن تعتزل الناس يعني أنك تبحث عن ذاتك وتتلقف احتياجاتها المغمورة لتمنحها ما يليق بها، أن تتجه إلى العزلة اختيارا يعني أنك في حالة صفاء وتجلٍ وأن العالم الذي يمتلئ ضجيجا ليس مثيراً لاهتمامك، نعم أنت وأنا ونحن لابد لكل منا أن يبتعد قليلا عن الضجيج، عن البروتوكول، ثم يتخذ له منحى آخر من العالم يتوقف فيه عن كل شيء إلا الإبحار في ذاته.
 
اعتزل عالمك اليومي وابحث عن الصفاء، اجعل ذلك لنفسك نزهة دورية مشوقة ترتحل فيها مع ذاتك، تتجلى مع خالقك بالتأمل في ملكوته، وتصفو سريرتك بتنقيحها وفرز مكامنها الملأى بالإبداعات والثروات المعطلة، أن تعتزل العالم لا يعني أن تكون انطوائيا أو مصابا بفصام أو ما شابه، بل يعني ذلك أنك ستنطلق بعدها بروح متجددة نقية.
 
أوما ترى الكثير من العظماء كانت عزلتهم سبيلا لعظمتهم! ثم انفردت لهم بهم صفحات التاريخ وأصبحوا قدوة تحتذى في مجالات عدة.
 
ابحث اليوم لنفسك عن مرفأ وغادر الضجيج المشوه بنفاق العالم وزحام التوتر ولوثة الماديات، «إن لذاتك عليك حق» فاعتن بها، وإن لديك من الطاقات ما لا تدركه وقد أهملته وغفلت عنه، ثم مضى بك العمر وأنت تبحث عن سعادة الآخرين وفقدت نفسك متسولاً
 
لرضاهم.
 
عليك أن تكون منصفاً لنفسك الآن، ليس مهماً أين تذهب مع ذاتك إلى ذاتك، المهم أن تلتقي بها وتحسن ضيافتها في كل مرة، وأن تتعاهد لقاءك بها، وأن تخرج بعد كل لقاء معها بروح جديدة وطاقات عالية يتفجر منها الإبداع.