لينا مظلوم
ما لا شك فيه أن الرئيس أنور السادات سعى إلى تكملة صورة صاحب قرار حرب أكتوبر ٧٣ والانتصار الذى حققه الجيش المصرى بإضافة مشهد صانع السلام، الذى يُنهى عقودا من الحرب بين العرب- على رأسهم مصر- وإسرائيل، إلا أن السادات الذى وُصِف بالمناور السياسى البارع كان يريد تحقيق هذا الحلم فى إطار قناعة خاطئة هى وضع ٩٩٪ من أوراق القضية الفلسطينية فى يد أمريكا، وتنحية روسيا بعيدا، هكذا استُدرِج العرب تدريجيا إلى منطقة بعيدة عن تأثير منظمة مجلس الأمن والأمم المتحدة، رؤية السادات واكبت أيضا انشغال روسيا بتحولات وانقسامات داخلية أدت إلى انحسار دورها كقوة عظمى موازية لأمريكا.. التركيبة التى حافظت عبر التاريخ على التوازن العالمى.
خلال عقود لم يقدم «الوسيط» الأمريكى للقضية الفلسطينية سوى المماطلة وشعارات الوعود الانتخابية الجوفاء لكل رئيس قادم إلى البيت الأبيض حول التعهد بتحقيق سلام عادل فى الشرق الأوسط! فى المقابل، خلال الأعوام الماضية، استعاد الدور الروسى قوته وتأثيره فى المنطقة بعدما اكتفى بدور المراقب لعقود، فى جميع الدول التى عانت من احتلال التنظيمات الإرهابية نتيجة وقوعها فى حالة فراغ سياسى وأمنى، نشطت روسيا فى الدخول كطرف فى التسويات السياسية ودعم جيوشها كموقف يضاف إلى سلسلة من الخطوات الجادة لدعم المنطقة فى الحرب على الإرهاب. التدخل الروسى- سياسيا وعسكريا- خلافا للدور الأمريكى، اتسم بالجدية وإدراك عميق لأزمات المنطقة وحلولها، بينما غلب الاستخفاف على سياسات أمريكا تجاه الطرف العربى منذ الحرب على العراق عام ٢٠٠٣.. ليستمر مسلسل الأخطاء والاعتذارات الفارغة من أى مضمون. لعل آخر هذه الأمثلة الصارخة، مشهد مندوبة أمريكا فى الأمم المتحدة وهى تستعرض أدلة تثبت دعم إيران لميليشيا الحوثى وإمدادها بالصواريخ الباليستية، وهى حقيقة لا تحمل مجالا للشك.. قد لا تشغل أمريكا بقدر ما يعنيها تأدية مناورة ساذجة، موجهة تحديدا إلى السعودية ودول الخليج، بهدف تخفيف حالة الغضب والتحرك السياسى والشعبى عربيًا وعالميًا نتيجة قرار ترمب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها.
التداعيات الأخطر، والتى كانت منتظرة بعد قرار ترمب العدائي، التصريح الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية حول استمرار رعاية أمريكا لعملية السلام، واعتزامها تقديم (خطة سلام) خلال المستقبل المرجح، فى حال وجود مثل هذه الخطة، إنها مقارنة بالمبادرة العربية التى اتفقت عليها الدول عام ٢٠٠٢، ستحمل تنازلات أساسية ما يضمن استحالة حدوث توافق عربى عليها، هكذا تبقى أمريكا القضية الفلسطينية فى حالة جمود، وتستمر إسرائيل فى فرض إرادتها على أرض الواقع.
امتداد الدور الروسى وقدرته على تحقيق عدة نجاحات جاء نتيجة سياسات تبنتها بحزم منذ ٢٠١١.. رؤية «ميكيافيللية» أشمل تسعى إلى تهدئة أزمات المنطقة العربية بما يضمن مستقبلا أنسب لمصالحها وعلاقاتها، خلافا للنظرة الضيقة الغالبة على سياسات دوائر صنع القرار الأمريكى من «هرولة»- دون دراسة جادة- الى تدمير دول ثمنا لتحقيق مصالحها، دون الأخذ فى الاعتبار لأى تداعيات قد تجلبها هذه التدخلات العشوائية على المنطقة.. بل على العالم بأسره. تحليلات عديدة فى مختلف وسائل الإعلام الأمريكى بدأت الأسابيع الماضية، اهتمت بأحد البدائل أمام العرب واتجاههم إلى روسيا كطرف مطلوب منه الاستحواذ على دور أكبر فى عملية السلام، أو على أضعف الإيمان إطلاقها من الحصار الأمريكى إلى كونها قضية عالمية.. خصوصًا مع احتفاظها بعلاقات متوازنة مع طرفى النزاع، مقابل الترحيب العربى المطلق، ستقابل المحاولات بالرفض من الجانب الإسرائيلى.. إلا أن مساندة الرأى العام الغربى ومنظماته للموقف العربى، وهو السلاح السياسى الوحيد فى يد الطرف الأخير-إذا أحسن استغلاله- بالإضافة إلى أن أوروبا بدأت تضيق ذرعا نتيجة العنف المرتكب فى مدنها باسم القضية الفلسطينية، مزاحمة روسيا للنفوذ الأمريكى والأوروبى فى دول عربية يؤهلها للتوسع فى مساحة هذا الدور ودفع القضية لتحتل أولويات مجلس الأمن، بل حتى استخدام حق (الفيتو) أمام العراقيل المنتظرة من أمريكا التى تمتلك تاريخا طويلا من الاستخدام لهذا الحق حماية لإسرائيل.
اختيار أمريكا- واقعيا- الانسحاب من عملية السلام، وفشل اللجنة الرباعية التى شكلت عام ٢٠٠٢ تحقيق أى تقدم على أرض الواقع، يفرض على العرب التوجه نحو مسارات مختلفة، روسيا مع عودتها كقوة موازية لأمريكا على الأرجح سترحب بهذا الدور ما يشكل التقاء مصالح متبادلة مع الطرف العربى.
زيارة نائب الرئيس الأمريكى مايك بنس إلى المنطقة مهما تعددت قراءاتها.. سواء تهدئة الجانب العربى أو شق الموقف العربى الموحد من هذه القضية، أو الاستعراض الإعلامى فى صور رسمية للمتاجرة بها أمام دول الغرب الرافضة لقرار ترامب كدليل على انتهاء سحابة الصيف! بين أمريكا والعرب، أو حتى التمهيد لما ذكرته وزارة الخارجية بأن أمريكا بصدد تقديم خطة سلام جديدة.. هى زيارة عديمة الجدوى ولن تحظى بالترحيب.