كيف يمكن للالتزامات الأميركية في الخليج أن تعيد بناء النظام الإقليمي؟
جيمس جيفري
إليزابيث دينت
الرئيس الأميركي دونالد ترمب وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في الرياض، السعودية، مايو 2025 (رويترز)
ملخص
أمام الولايات المتحدة فرصة نادرة لإعادة تشكيل الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط عبر التزامات دفاعية جديدة مع دول الخليج وإضعاف النفوذ الإيراني، لكن نجاح هذا التحول يتوقف على قدرة واشنطن على توحيد رؤيتها مع شركائها وترسيخ إطار أمني موثوق قبل أن تضيع هذه اللحظة الاستراتيجية.
خلال التاسع من سبتمبر (أيلول) الماضي، صدمت إسرائيل العالم عندما قصفت فيلا في حي سكني داخل الدوحة في محاولة لاغتيال مسؤولين كبار في حركة “حماس”. كانت تلك المرة الثانية التي تُستهدف فيها قطر هذا العام. خلال يونيو (حزيران)، أطلقت طهران صواريخ على قاعدة جوية أميركية في دولة قطر رداً على الضربات الأميركية الإسرائيلية على إيران. وبصفتها حليفاً مهماً للولايات المتحدة ووسيطاً رئيساً في النزاعات، كانت قطر تعد عادة منطقة محظورة على الأطراف المتحاربة في المنطقة. علاوة على ذلك، استضافت قطر قادة “حماس” لأعوام، بموافقة أميركية وإسرائيلية ضمنية، في إطار دورها الوسيط، في الواقع، كان المسؤولون المستهدفون يتفاوضون عبر القنوات القطرية حول اتفاق محتمل لإطلاق سراح الرهائن ووقف إطلاق النار في غزة. ولو أسفرت الضربات عن سقوط مزيد من الضحايا أو إلحاق أضرار بقطر، لكان من الممكن أن يزعزع ذلك استقرار المنطقة بأكملها، مما يؤدي إلى توسيع رقعة الحرب لتشمل الخليج، ويحطم على الأرجح أية آفاق للتوصل إلى هدنة خلال المدى المنظور.
لم تنجح الضربة الإسرائيلية على قطر، ولم يحدث ذلك السيناريو. لكن الهجوم حقق، عن غير قصد، أمراً بالغ الأهمية: فقد فتح الباب أمام ما قد يكون أحد أهم التحولات في سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط منذ عقود. لم يقتصر الأمر على أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أبدى غضباً شديداً دفعه إلى الضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للموافقة على وقف إطلاق النار في غزة، بل اتخذ أيضاً خطوة غير مسبوقة بإصداره أمراً تنفيذياً يعيد تأكيد التزام واشنطن تجاه حليفتها الخليجية، مؤكداً أن أي هجوم مسلح على قطر سيعد “تهديداً للسلم والأمن في الولايات المتحدة”. ومن المرجح أن يرسي هذا التأكيد القاطع على الدعم الأميركي معياراً جديداً للعلاقات الأمنية بين دول الخليج والولايات المتحدة.
ضمن سياق التغيرات الجذرية في ميزان القوى الإقليمي، تمهد هذه الخطوات الطريق لنظام جديد داخل الشرق الأوسط. وإذا أمكن تحقيق هذا النظام، فسيكون قائماً على تعميق العلاقات الأميركية الخليجية، وانهيار النفوذ الإقليمي الإيراني، وتنسيق أوثق بين الجيوش الصديقة. وللمرة الأولى منذ جيل، بات لدى الولايات المتحدة فرصة لبناء هيكل أمني مستدام في إحدى أكثر مناطق العالم عنفاً. ولكن على إدارة ترمب أن تتحرك بسرعة للاستفادة من هذه اللحظة النادرة عبر توحيد الرؤى مع شركائها، وترسيخ الإطار الأمني الناشئ، وتنشيط الدبلوماسية. ومع استعداد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان للقاء ترمب في واشنطن خلال الـ18 من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، تبرز أمام الولايات المتحدة فرصة حاسمة لتوسيع نطاق تعهدها الأمني الجديد تجاه قطر ليشمل السعودية ومنطقة الخليج بأكملها. لكن أي تردد أو ارتباك سياسي من جانب الإدارة الأميركية سيقوض كل التقدم المحقق.
هدوء نادر
بعد عامين من الحرب، بات خصوم الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أضعف مما كانوا عليه منذ عقود. وحتى إذا لم يصمد وقف إطلاق النار في غزة، فإن الاتفاق، الذي ضمن عودة جميع الرهائن الإسرائيليين الأحياء مقابل انسحاب إسرائيلي جزئي فحسب، يمثل هزيمة فعلية لـ”حماس”. وخلال الوقت نفسه، تضررت برامج الصواريخ الباليستية والأسلحة النووية الإيرانية بشدة، وأُطيح نظام الأسد حليف إيران في سوريا، وتعرض “حزب الله” وكيل طهران في بلاد الشام لانتكاسة كبيرة، وجرى إخضاع الميليشيات المدعومة من إيران في العراق إلى حد كبير. حتى الآن، فإن الحوثيين في اليمن هم الوحيدون من بين وكلاء إيران أو شركائها الذين ما زالوا يشكلون تهديداً عسكرياً كبيراً، إلا أن قيادة الجماعة تتعرض لضغوط متزايدة من إسرائيل. وقد تعود إيران للظهور كتهديد إقليمي في المستقبل، لكن قدراتها قُوضت. ونتيجة لذلك، يشهد الشرق الأوسط حالاً من الهدوء النادر تتماشى مع المصالح الأميركية.
ولا تُعزى هذه التغييرات إلى الحروب التي أعقبت هجمات “حماس” خلال السابع من أكتوبر 2023 فحسب، بل ينسب بعض الفضل أيضاً إلى إدارة ترمب الأولى وإدارة بايدن، اللتين كانتا أكثر تشابهاً في نهجهما تجاه الشرق الأوسط مما يعتقد عادة. فخلال ولايته الثانية اتبع ترمب نهج أسلافه من خلال العمل بصورة وثيقة بالتعاون مع الشركاء المحليين. ولخص استراتيجيته ضمن خطاب ألقاه في الرياض خلال مايو (أيار) الماضي، شدد فيه على ضرورة أن تتولى دول الشرق الأوسط، ولا سيما دول الخليج وتركيا، إدارة شؤونها الداخلية والاضطلاع بدور أكبر في الأمن الإقليمي، مدعومة، عند الضرورة، بعمليات عسكرية أميركية حاسمة. وفي المقابل، عرض على شركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط مكافآت اقتصادية وأمنية جديدة.
إلى جانب تعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية بصورة كبيرة مع الولايات المتحدة، منح الحلفاء العرب فرصة لتعميق علاقاتهم الدبلوماسية مع إسرائيل، على النحو الذي مهدت له اتفاقات أبراهام، وهي سلسلة من الاتفاقات التي وقعت خلال ولاية ترمب الأولى وطبَّعت العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية. إن هذا المفهوم، إلى جانب التزام ترمب بعدم إنفاق موارد ضخمة على بناء الدول، يوفر للشعب الأميركي صفقة أفضل، تتمثل في الاستقرار داخل الشرق الأوسط بكلفة عسكرية أقل ومكاسب اقتصادية أكبر للولايات المتحدة. ومنذ عودته إلى السلطة، واصل ترمب تنفيذ هذه الاستراتيجية من خلال احتضان زعيم سوريا الجديد أحمد الشرع، الإرهابي السابق، وقصف موقع فوردو النووي في إيران، وإصدار التزام أمني استثنائي للدوحة، وإقناع إسرائيل و”حماس” بقبول وقف إطلاق النار.
اقرأ المزيد
شرق أوسط جديد… صنعته اسرائيل
استراتيجية إسرائيل
انتصار إسرائيل المهدور
عصر ما بعد إيران في الشرق الأوسط
حري بأوروبا ألا تقف موقف المتفرج في الشرق الاوسط
كانت استراتيجية بايدن للأمن القومي عام 2022 مشابهة من نواحٍ عديدة لاستراتيجية الأمن القومي التي اعتمدها ترمب عام 2017. فقد ركزت كلتاهما على التنافس مع القوى العظمى الأخرى، بما في ذلك من خلال بناء الاقتصاد الأميركي، وتعزيز الجيش، واستخدام القوات المسلحة بصورة حاسمة. وخلال عام 2024، أصبح بايدن أول رئيس يشارك في قتال مباشر دعماً لإسرائيل، عندما أمر القوات الأميركية بإسقاط الصواريخ الإيرانية. كذلك، نصت استراتيجية الأمن القومي لعام 2022 على أن الولايات المتحدة ستتعاون مع “دول لا تتبنى مؤسسات ديمقراطية”، طالما أنها تدعم “نظاماً دولياً قائماً على القواعد”. وترجم بايدن هذا المبدأ عملياً من خلال تعاونه مع نتنياهو على رغم الإخفاقات الأخلاقية والسياسية الخطرة في غزة، ومع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في شأن توسع الناتو، ومع حكام الخليج في شأن الهيكل الأمني الإقليمي.
وهناك قاسم مشترك آخر بين سياسات بايدن وترمب في الشرق الأوسط: فعلى رغم حصولها على دعم كبير من الكونغرس والرأي العام، فإنها تسببت في توترات داخل القواعد السياسية الأساس لكل منهما. فمع تفاقم الأزمة الإنسانية في غزة، تعرض بايدن لانتقادات لاذعة من شرائح داخل الحزب الديمقراطي، انقلبت ضد إسرائيل. أما ترمب، فواجه معارضة صاخبة من كثرٍ في جناح “أميركا أولاً”، يريدون أن تكون الولايات المتحدة أقل انخراطاً عسكرياً داخل الشرق الأوسط. ومع ذلك، ظل كلا الرئيسين ملتزماً بمشاركة أمنية أميركية قوية في المنطقة.
خطوط حمراء جديدة
أصبحت دول الخليج محور النظام الإقليمي الجديد. فلو لم يكن هناك رد أميركي قوي، لكان من الممكن أن يؤدي القصف الإسرائيلي للدوحة إلى إثارة الشكوك في شأن التزام واشنطن تجاه الخليج والشرق الأوسط بصورة عامة. لكن الهجوم تحول بدلاً من ذلك إلى محفز دفع ترمب لإعادة تأكيد أهمية الخليج للأمنين الأميركي والإقليمي. في جوهر الأمر، أجبر هذا الحدث واشنطن على الاعتراف بأن الردع داخل الخليج لم يعد يمكن أن يقتصر على الوجود العسكري الأميركي، ومبيعات الأسلحة، والصفقات الاقتصادية، بل يتطلب إطاراً أكثر تكاملاً واستدامة سياسياً.
عندما أصدر ترمب الأمر التنفيذي الذي تعهد فيه الدفاع عن قطر، وجه رسالة إلى الشرق الأوسط بأسره مفادها أن الخطوط الحمراء الأميركية موجودة أبعد من حدود إسرائيل. وأبلغ الشركاء الخليجيين أن نطاق التزامات الدفاع الأميركية داخل المنطقة اتسع، ربما بصورة دائمة. ويكفي المقارنة مع عام 2019، عندما استهدفت ميليشيات موالية لإيران مصفاة نفط سعودية رئيسة. خلال ذلك الوقت لم يحرك ترمب ساكناً، مما دفع دول الخليج إلى فقدان بعض ثقتها في التزام الولايات المتحدة بأمنها. أما اليوم ومع صدور الأمر التنفيذي، باتت تلك الدول تملك سبباً وجيهاً للاعتقاد أن أي هجوم من هذا القبيل في المستقبل سيقابل برد مختلف.
أصبح خصوم الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أضعف مما كانوا عليه منذ عقود
لم تكن تعهدات ترمب هذه أول التزام أميركي من نوعه تجاه الخليج. فخلال عام 2023، وقعت إدارة بايدن “الاتفاق الشامل للتكامل الأمني والازدهار” بين الولايات المتحدة والبحرين، الذي هدف إلى توفير إطار عمل لانخراط الولايات المتحدة داخل المنطقة. وأسهم الاتفاق في تعزيز المبادرات الاقتصادية والتكنولوجية الجديدة بين البلدين، وتنظيم مناورات عسكرية مشتركة، وتنسيق التخطيط الدفاعي، وزيادة تبادل المعلومات الاستخباراتية. وفي ما يتعلق بالأمن المتبادل، شدد الاتفاق على التشاور والاستجابات المشتركة بدلاً من الرد الأميركي الفوري والإلزامي على أي هجوم مسلح، سواءً كان عسكرياً أو غير ذلك.
وعلى رغم أن كلاً من الاتفاق مع البحرين والأمر التنفيذي في شأن قطر يفتقران إلى الوضوح القانوني أو الاستمرارية المؤسسية التي تتمتع بها المعاهدات المصدق عليها من مجلس الشيوخ الأميركي، فإن دلالاتهما السياسية بالغة الأهمية، وإن كانت أكبر بكثير بالنسبة إلى قطر. فللمرة الأولى منذ حرب الخليج عام 1991، ربطت الولايات المتحدة مصالحها بصورة صريحة بأمن دولة خليجية. وبهذه الخطوة، وضع ترمب معياراً جديداً للعلاقات الأمنية الأميركية مع شركائه الخليجيين والإقليميين. وأشارت السعودية بالفعل إلى أنها، عند زيارة ولي العهد السعودي للبيت الأبيض، قد تسعى إلى إبرام اتفاق دفاعي مماثل، على صورة أمر رئاسي يعد الهجوم على السعودية بمثابة هجوم على المصالح الأميركية.
وسيكون هذا أقل طموحاً من الاتفاق الأمني الرسمي الذي سعى إليه ولي العهد قبل اندلاع الحرب في غزة. ففي عهد إدارة بايدن، كانت الولايات المتحدة تجري محادثات مع السعودية في شأن معاهدة دفاعية مصدق عليها من مجلس الشيوخ، من المرجح أنها كانت ستأتي مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل، مما يعني عملياً توسيع نطاق اتفاقات أبراهام لتشمل السعودية. لكن هذا النوع من الاتفاقات أُجل نظراً إلى تعقيدات الوضع في غزة بعد الحرب. أما الآن، فبحسب رؤية الرياض وشركائها الخليجيين، فإن الأمر التنفيذي الذي أصدره ترمب في شأن قطر يمنح حماية أميركية ملموسة، ويتجنب المفاوضات الطويلة والمعقدة التي قد تتطلبها المعاهدات الرسمية أو اتفاقات التطبيع مع إسرائيل. وبعبارة أخرى، فإن استجابة ترمب لأزمة الدوحة قد يرسي أساساً لهيكل أمني جديد داخل المنطقة، شريطة أن تقدم الولايات المتحدة الدعم اللازم لجعله ذا صدقية.
إمعان النظر في التفاصيل الدقيقة
بالنسبة إلى قطر والسعودية والإمارات العربية المتحدة، أثار الأمر التنفيذي الذي أصدره ترمب آمالاً كبيرة وتساؤلات خلال الوقت نفسه. وفسرته الدول الثلاث، وربما عن حق، على أنه دليل واضح على عزم الولايات المتحدة على الدفاع عن شركائها في المنطقة ضد التهديدات التي تصدر من دول أو من جماعات غير حكومية. لكن في المقابل، أثار الغموض القانوني الذي يحيط بهذا التعهد مخاوف لدى القادة الخليجيين في شأن مدى استمراريته وقابليته للتنفيذ. فعلى سبيل المثال، يمكن لإدارة أميركية جديدة عام 2028 إلغاؤه بسهولة، وإن كان ذلك سيحمل أخطاراً جسيمة على العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وقطر.
علاوة على ذلك، فإن إدارة ترمب لم توضح بعد بصورة كاملة ما إذا كان التعهد تجاه الدوحة يمثل تحولاً رسمياً في السياسة أم مجرد خطوة ارتجالية ظرفية. فليس واضحاً، على سبيل المثال، كيف يمكن أن تمنع وقوع سيناريو مشابه لذاك الذي واجهته قطر خلال سبتمبر الماضي. ففي حال حدوث هجوم مماثل، هل ستعمل الولايات المتحدة على اعتراض الصواريخ الإسرائيلية قبل أن تضرب الدوحة، أم ستكتفي بإخطار قطر بالهجوم في وقت أسرع؟ هل ستتخذ الولايات المتحدة إجراءات لكبح جماح إسرائيل، أقرب حلفائها في الشرق الأوسط؟ تشير سوابق التاريخ إلى أن الالتزامات الأمنية الأميركية لا تتعلق عادة بالرد العسكري على حوادث منفردة، بل تهدف إلى ردع العدوان الواسع النطاق، مثل العدوان الذي شُن على الكويت عام 1990، وتعزيز بيئات أمنية إقليمية تشجع على الاستقرار والقدرة على التنبؤ والسلام. وعندما اقتضت الضرورة، كبحت الولايات المتحدة جماح بعض حلفائها في بعض الأحيان، مثلما حدث حينما هاجمت فرنسا والمملكة المتحدة قناة السويس عام 1956، أو عندما هددت تركيا قبرص عامي 1964 و1974.
تعكس هذه التوترات معضلة أعمق. ففي السابق، كان شركاء الخليج يتأرجحون بين المطالبة بحماية أميركية أكبر وبين فتح قنوات موازية مع قوى أخرى مثل الصين وروسيا بحثاً عن بدائل. فعلى سبيل المثال، وقعت السعودية خلال سبتمبر الماضي اتفاقاً دفاعياً مع باكستان. ومع أن الأمر التنفيذي الجديد قد يقلل من الحاجة إلى البحث عن شركاء إضافيين، إلا أن ذلك يتوقف على مدى وضوح واشنطن في أن تعهدها الأمني مدعوم بقوة حقيقية. ففي حال عدم تلبية توقعات قطر في شأن الرد على أي عدوان خارجي، فإن الولايات المتحدة تخاطر بخلق منطقة رمادية خطرة تشعر فيها دول الخليج بأن الالتزامات الأميركية قوية إلى حد لا يمكن التخلي عنها، لكنها في الوقت ذاته ضعيفة وغير كافية لمنع هذه الدول من السعي إلى صفقات بديلة قد تتعارض مع المصالح الأميركية. في مثل هذا السيناريو، قد تجد واشنطن نفسها تتحمل المسؤولية من دون أن تملك النفوذ. قد تُلام على الأزمات الإقليمية، لكنها تفتقر إلى النفوذ اللازم للتأثير في سلوك شركائها. وسيكون التعامل مع هذه التوقعات اختباراً رئيساً للمهارة الدبلوماسية التي تتمتع بها الإدارة خلال الأشهر المقبلة.
كما أن النموذج الجديد المتعلق بالدوحة يحمل أخطاراً أخرى. فالضمانات المقدمة لقطر، وكذلك المواقف والاستراتيجية الأميركية الأوسع في المنطقة، ما زالت تتسم إلى حد كبير بطابع تفاعلي أكثر من كونها نتيجة لتخطيط منسق ومدروس. ولم تضع الإدارة الثانية لترمب بعد عقيدة أمنية رسمية للمنطقة. واستطراداً، هناك أيضاً خطر أن تفرط الولايات المتحدة في التدخل. ففي غياب الوضوح، قد يسيء شركاء الخليج فهم التعهد باعتباره معادلاً للمادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي (الناتو)، التي تنص على أن أي هجوم مسلح على أحد الحلفاء يعد هجوماً على جميع الأعضاء. وقد يؤدي تباين الافتراضات والتقديرات في واشنطن وعواصم الخليج إلى سيناريوهات تُجر فيها الولايات المتحدة إلى نزاعات إقليمية، أو ربما الأسوأ من ذلك، أن تبدو وكأنها تتراجع عن التزاماتها في لحظات التصعيد. ولكي تجعل واشنطن التزامها تجاه قطر ذا صدقية، سيتعين عليها إضفاء طابع مؤسسي عليه بطريقة توازن بين الردع من جهة والمرونة السياسية والعسكرية من جهة أخرى.
كسب السلام
على رغم هذه التحديات، تمتلك الولايات المتحدة فرصة نادرة لإعادة تشكيل أمن الشرق الأوسط. فمع إضعاف الخصوم، وتمكين الشركاء، وتفعيل الدبلوماسية، بات بإمكان واشنطن صياغة النظام الإقليمي الناشئ بطرق كانت غير متاحة قبل أعوام قليلة. وبالاستناد إلى الضمانات الأمنية الجديدة تجاه دول الخليج، يمكن لإدارة ترمب، على سبيل المثال، إضفاء الطابع الرسمي على اتفاقات دفاعية متعددة الأطراف بين دول الخليج (وربما إسرائيل)، أو توسيع نطاق اتفاقات أبراهام لتصبح منتدى سياسياً إقليمياً أوسع، أو الاستفادة من التعاون الأمني لتحفيز الاستثمار الاقتصادي وتعزيز التكامل مع الدول التي ترغب في الانضمام إلى الترتيبات الأمنية المتوافقة مع الولايات المتحدة. لقد شعرت دول الخليج بالاستياء من إسرائيل بسبب حربها في غزة وهجومها على قطر. لكنها تدرك خلال الوقت نفسه أن الخليج أصبح أكثر أماناً من خلال إضعاف القدرات العسكرية لإيران ووكلائها.
ويُذكر أن الولايات المتحدة سبق أن أتيحت لها فرص لإعادة تشكيل النظام في الشرق الأوسط، عام 1974 بعد حرب يوم الغفران، وعام 1991 بعد تحرير الكويت. ففي كلتا الحالتين، تمكنت التحالفات التي قادتها واشنطن من هزيمة الأطراف التي تسببت في النزاعات الإقليمية، وتبعت ذلك مبادرات دبلوماسية كبرى، شملت معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، ومؤتمر مدريد عام 1991، واتفاقات أوسلو. غير أن حكومات المنطقة فشلت في ترسيخ السلام بصورة دائمة خلال تلك الفترات. ولا تزال هناك تحديات مماثلة في المستقبل، وينبغي على واشنطن وشركائها داخل المنطقة اليوم محاولة تجنب تكرار تلك التجارب، وتحويل الاستقرار الذي برز موقتاً إلى وضع طبيعي جديد.
كما أنها أيضاً لحظة سانحة للولايات المتحدة لإعادة تقييم وتحديد وضعها العسكري في الشرق الأوسط. فمع تراجع الحاجة إلى انتشار عسكري واسع النطاق، تستطيع واشنطن أن تعتمد مجدداً على سياسة إبراز القوة الاستراتيجية من خلال قدرات الاستجابة السريعة والتموضع المتقدم للقوات، إلى جانب توسيع التكامل والتشغيل البيني العسكري بين شركائها الإقليميين. وبالقدر نفسه من الأهمية، يمكن للولايات المتحدة أن تستغل نفوذها المتجدد لمعالجة التوترات المستمرة داخل المنطقة، بما في ذلك داخل العراق ولبنان وسوريا واليمن. فعلى سبيل المثال، يمكنها أن تستخدم التزاماتها الجديدة تجاه قطر، وربما السعودية لاحقاً، لتشجيع الدوحة والرياض على لعب دور أكثر فاعلية في منع الميليشيات من التدخل في مؤسسات الدولة العراقية، أو على المساهمة بصورة أكبر في إعادة إعمار لبنان.
أما في حال فشل الولايات المتحدة في المتابعة وتنفيذ التزاماتها، فقد تغلق نافذة الفرصة المتاحة لوضع المنطقة على مسار أفضل وأكثر استقراراً، مما سيخلف حلفاء محبطين، وخصوماً أكثر جرأة، وضرراً دائماً بصدقية واشنطن. لقد استثمرت واشنطن موارد هائلة في تحقيق الاستقرار داخل الشرق الأوسط، وهي الآن تواجه أخيراً اصطفافاً إقليمياً يجعل تحقيق الأمن الدائم أمراً ممكناً. وسيكون من المؤسف حقاً ترك هذه الفرصة تضيع سدى.
جيمس جيفري هو زميل بارز في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، يشغل كرسياً بحثياً يحمل اسم فيليب سولوندز. وخدم بصفته دبلوماسياً في وزارة الخارجية الأميركية عبر سبع إدارات، وتولى بين عامي 2018 و2020 منصب المبعوث الخاص للولايات المتحدة في الملف السوري والمبعوث الخاص للتحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”.
إليزابيث دينت هي زميلة بارزة في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى وتشغل كرسي ناثان وإيستر ك. فاغنر البحثي. شغلت سابقاً منصب مديرة شؤون الخليج وشبه الجزيرة العربية في مكتب وزير الدفاع الأميركي.
مترجم عن “فورين أفيرز”، الـ13 من نوفمبر 2025

