أحمد مرواني
في الرابع والعشرون نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، مُني التيار الإسلامي في الجزائر بهزيمة كبرى في آخر استحقاق انتخابي شهدته البلاد ما يعكس ويثبت وجود تراجع حاد في شعبية هذا التيار. وبالمقابل لم يتحصل التحالف الإسلامي المكوّن من ثلاث أحزاب هي (جبهة العدالة والتنمية وحركة النهضة وحركة البناء الوطني) سوى على رئاسة ثماني بلديات من مجموع 1541 بلدية، ولم يتحصل مرشحو هذه الأحزاب على عضوية أي مجلس ولائي من مجموع الــ 48 مجلس على مستوى ولايات (محافظات) الجزائر.
وحسب النتائج الرسمية المُعلن عنها من طرف وزير الداخلية والجماعات المحلية نور الدين بدوي، فقد تمكنت أحزاب السلطة ممثلة في حزبي جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي الذي يتزعمه رئيس الحكومة الحالي أحمد أويحيى من الحصول على غالبية المقاعد والمجالس البلدية، حيث فازت جبهة التحرير برئاسة 603 بلدية، في حين فاز التجمع الوطني الديمقراطي برئاسة 451 بلدية.
الحصيلة الهزيلة للإسلاميين لا تتعلق بالانتخابات التي جرت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي فقط، بل هو مسلسل بدأت أولى حلقاته منذ سنوات، فخلال الانتخابات البرلمانية التي شهدتها البلاد في مايو/أيار الماضي كانت الحصيلة بمثابة خيبة كبرى لهذا التيار، حيث لم تتمكن الأحزاب الإسلامية مجتمعة من الحصول إلا على 48 مقعدا من أصل 462، بينما كانت الأغلبية كالعادة لأحزاب السلطة بأغلبية مريحة تقدر بــ 261 مقعدا.
ورغم أن بعض القيادات الإسلامية علقت إخفاقاتها المتكررة على شماعة التزوير، والتشكيك في نزاهة العملية الانتخابية، وهو ما ذهب إليه رئيس حركة مجتمع السلم عبد المجيد مناصرة، إلا أن قيادات أخرى من نفس التيار اعترفت ولأول مرة بالإخفاق والفشل، وأبرز هؤلاء رئيس حركة النهضة سابقا الدكتور فاتح ربيعي الذي نصح الإسلاميين عشية الإعلان عن نتائج الانتخابات بقوله ـــ مثلما جاء في صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك ــــ بقوله “أتمنى أن يلغي الإسلاميون من قاموس خطابهم هذه الأيام لفظ تزوير الانتخابات، ويفكروا مليا في أسباب الإخفاقات”. ونصح ربيعي قيادات التيار الإسلامي بضرورة النظر بجدية وصدق وعمق في أسباب الإخفاقات، وأن يتسم هذا التيار بالواقعية السياسية، ويستمع إلى “الأصوات الناقدة ولا يصم عنها الآذان، مثلما فعل في مرات عديدة، وأدى ذلك إلى استقالات جماعية في صمت”.
هناك عدة أسباب هيكلية، وفكرية ساهمت في إضعاف شوكة التيار الإسلامي في الجزائر وأدت إلى تراجعه، منها عجز هذا التيار على التوسع بين الأوساط الشعبية والجماهيرية، بسبب اعتماده على سياسة انتقاء أفراده، واعتماده على الطبقة المثقفة، وعلى الجامعيين بشكل خاص. كما أحالت ثقافة الزعيم الملهم بين أفراد هذا التيار، دون بروز قيادات جديدة بين أوساطه، وخاصة بين فئة الشباب الذين يبقى تواجدهم في المناصب القيادية محتشم جدا.
هناك ضرورة لفتح المجال لوصول فئة الشباب التي تعد أكثر تحررا وانفتاحا وقبولا للممارسات الديمقراطية من الجيل القديم الرافض والمعيق لأي تحول ديمقراطي داخلي إلى المناصب القيادية بدل استغلالهم كوقود للدعاية الانتخابية فقط.
ومن اهم أسباب تراجع الأحزاب الإسلامية هو طغيان الخطاب الديني والأيديولوجي في خطاباتهم السياسية، وعدم تقديم حلول واقعية للمشاكل التي يعاني منها المجتمع الجزائري. كما بعثت حالة الانقسام والتشظي التي عانت منها الأحزاب الإسلامية خلال السنوات الأخيرة بعثت برسائل سلبية للجزائريين بشأن هذه الأحزاب، حيث انقسمت حرك مجتمع السلم إلى ثلاثة أحزاب هي (حركة مجتمع السلم، جبهة التغيير، وحركة البناء الوطني) كما تفتت حركة النهضة إلى عدة أحزاب.
ورغم أن الأحزاب الإسلامية بشكل عام ترفض الممارسة الديمقراطية في الأساس لاعتبارات إيديولوجية، إلا أن الظروف والتحديات الإقليمية والداخلية تفرض عليها الخروج من نموذجها التسلطي في شكله الحالي إلى أحزاب مدنية تحتكم للمؤسسات المنتخبة بشكل ديمقراطي واضح، وتعد تجربة حركة النهضة التونسية نموذجا يحتذى به من خلال إعلان زعيمها راشد الغنوشي عن قرار يقضي بفصل الدعوي عن العمل السياسي والحزبي والتحول إلى حزب مدني، مع الأخذ في الاعتبار أن قرار الغنوشي لم يكن وليد الصدفة، بل تم الوصول إليه عبر تراكم فكري وأيديولوجي استمر على مدار عقدين كاملين.
إضافة إلى ذلك، كان هناك اتجاه داخل التيار الإسلامي دفع قطاعات كبيرة منهم إلى العزوف عن المشاركة السياسية. وخلال السنوات الأخيرة برز التيار السلفي المحافظ بقوة في المشهد الجزائري، وهو التيار الذي يحرّم غالبية شيوخه المشاركة في الانتخابات، ويعتبرون منافسة “ولي الأمر” أي الحاكم في منصبه أمر غير جائز شرعا، ويبرر هؤلاء موقفهم بما حدث في دول الربيع العربي، ويحملون مسؤولية العنف الذي تشهده هذه الدول على الإخوان المسلمين التي يتهمونها بدفع المتظاهرين إلى الخروج على الحكام ومحاربتهم، وقد أثر موقف السلفيين بشكل كبير على قطاعات عريضة من الجزائريين.
ومن ثم، وحتى يتمكن الإسلامين من توسيع نفوذهم في الجزائر، يجب على الأحزاب الإسلامية أن تتحرر من عباءة الزعامات الدينية وتتحول فعلا لا قولا إلى مؤسسات سياسية لا دينية، يكون سلطة القرار فيها خاضعا إلى مؤسسات منتخبة لا تتأثر قرارتها لهيمنة الزعيم الملهم أو الشيخ المؤسس.
وإلى جانب ما سبق ثمة أسباب أخرى ساهمت في ضعف التيار الإسلامي، منها تراجع ثقة الجماهير في جدوى العملية الانتخابية نتيجة التلاعب المتكرر بنتائجها، إلى جانب القواعد المربكة للعملية الانتخابية والتي وضعت على مقاس أحزاب السلطة والموالاة، مع هيمنة المال السياسي والمال الفاسد على المشهد السياسي.
وفي حال عدم مراجعة السياسات القائمة فإن مستقبل الإسلام السياسي في الجزائر سيكون مصيره إلى زوال، في ظل النزيف الحاد الذي يطال قواعده التي ملّت وفقدت الثقة من جدوى العمل السياسي في شكله الممارس حاليا، لذلك فضلت نسبة كبيرة من الإسلاميين العزوف عن السياسية، وعدم المشاركة في أية انتخابات، حيث باتت الأغلبية الصامتة المقاطعة تضم فئات عريضة من الإسلاميين وفئة الشباب والكثير ممن فقد الثقة في العملية السياسية أصلا هي الحزب الغالب والفائز في كل المواعيد الانتخابية، وهو الأمر الذي تؤكده الأرقام من خلال آخر انتخابات حيث تجاوزت نسبة المقاطعين 55 بالمائة .
وبالمقابل اتجه العديد من مناضلي هذه الأحزاب للالتحاق بأحزاب السلطة مباشرة، أو بإنشاء أحزاب جديدة موالية للنظام على غرار القيادي السابق في حركة مجتمع السلم عمار غول والذي انشق عن حزبه وأسس حزبا جديدا أسماه تجمع أمل الجزائر وبات أحد الأحزاب الداعمة للرئيس بوتفليقة بقوة.
يرفض الأغلبية من أنصار التيار الإسلامي الدخول في تصادم مع النظام، لذلك لا تطرح مسألة تراجع شعبية هذه الأحزاب أية تداعيات في علاقة أفراد هذه الأحزاب بالتنظيمات الجهادية، وقد ساهمت تجربة العنف المسلح الذي قامت به جبهة التحرير الجزائرية في فترة التسعينات، إضافة إلى العنف المسلح الذي اندلع في دول مثل مصر وسوريا، ساهمت في ترسيخ هذه القناعة.
وختاما، إن نجاح الحركات الإسلامية في الجزائر قد أصبح مرهون بقدرة تلك الأحزاب على إحداث تغييرات تتعلق بهيكلتها وأهدافها، كما يجب أن يتبنون خطاب علماني جديد يعمل على مخاطبة الجزائريين وإقناعهم بطرح حلول للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي يعانون منها، وهي مشاكل كثيرة تهدد البلاد في أمنها واستقراها. وفي حال عدم شروع هذه الأحزاب في المبادرة بمراجعات عميقة لسياساتها وخياراتها الآنية والاستراتيجية، فإن نبوءة وزير الصحة السابق ورئيس حزب الحركة الشعبية الجزائرية الحالي عمارة بن يونس حينما أكد أن نتائج الانتخابات الأخيرة هي بمثابة إعلان عن بداية نهاية الإسلام السياسي في الجزائر ستتحقق.