د. عبد الله الردادييحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
في استثمار هو الأضخم من نوعه، أعلنت كوريا الجنوبية عن استثمارها بمبلغ قارب نصف تريليون دولار (نحو 470 مليار دولار) لإنشاء تجّمع كامل لتصنيع الرقائق الإلكترونية، تزيد مساحته على 30 ألف ملعب كرة قدم! وتهدف كوريا من هذا التجمّع الضخم إلى خلق منظومة من المؤسسات المرتبطة بهذه الصناعة، من خلال بناء 13 مصنعاً جديداً، و3 مختبرات أبحاث، لتكون مكملة لـ19 مصنعاً ومختبري أبحاث قائمين. ومن المقرر الانتهاء من إنشاء مختبري الأبحاث و3 مصانع بحلول عام 2027، بينما وصل الحد الزمني لكامل المشروع إلى عام 2047. فما دوافع كوريا خلف هذا الإعلان؟ وما القدرات الكورية التي تمكّنها من إنجاز مشروع بهذه الضخامة؟
قطاع التقنية هو المحرك الأساسي للاقتصاد الكوري، وكوريا موطنٌ لكبريات الشركات المصنعة للإلكترونيات بشكل عام ولأشباه الموصلات بوجه خاص. وفي عام 2022، صدّرت كوريا نحو 129 مليار دولار من سلع أشباه الموصلات، وهو ما يعادل 19 في المائة من صادراتها الوطنية. وتعتمد كوريا على هذه السلعة في الصادرات وفي التصنيع المحلي كذلك، سواء في السيارات أو الأجهزة الإلكترونية والهواتف الذكية… وغيرها. وهي تهدف من هذا المشروع إلى رفع الاكتفاء الذاتي من أشباه الموصلات من 30 في المائة إلى 50 في المائة بحلول عام 2030. ومن المفترض أن تصل القدرة الإنتاجية لهذا التجمع نحو 7.1 مليون رقاقة شهرياً، أي الأكبر في العالم، كما يتوقع أن يخلق هذا المشروع ما بين 3 إلى 3.5 مليون وظيفة.
وتستثمر كوريا في مناطق كثيرة حول العالم في هذه المصانع، كان آخرها استثمار «سامسونغ» لبناء مصنع للرقائق الإلكترونية في ولاية تكساس الأميركية بتكلفة 17 مليار دولار، بتشجيع من قانون الرقائق والعلوم الذي أطلقته إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ليوفر حوافز مالية لهذه الصناعة بقيمة 53 مليار دولار.
ولكن تجربة كوريا في الصين علّمتها أن الاستثمار في أراضيها أكثر أماناً من الخارج، فبعد أن اشترت شركة «إي كي هاينكس» الكورية مصنعاً في مدينة داليان شمال الصين، من نظيرتها الأميركية «إنتل» عام 2020، اصطدم هذا الاستثمار بالقيود الأميركية المفروضة على الصين، والتي حدت من وصول الصين إلى المواد والمعدات الأساسية في هذه الصناعة، وهو ما أحبط المخططات التوسعية للشركة الكورية.
ولذلك، قررت الحكومة الكورية تشجيع الاستثمار المحلي في هذه الصناعة استجابة للتغيرات العالمية فيها. وأطلقت وعداً أكدت فيه الدعم المستمر لهذه الصناعة، فمددت الإعفاءات الضريبية التي كان من المقرر أن تنتهي هذا العام إلى أجل غير مسمى، وزادت هذه الإعفاءات لتصل إلى 15 في المائة للشركات الكبرى المستثمرة في المصانع، و25 في المائة للشركات الصغيرة والمتوسطة.
ونجاح هذا المشروع الضخم يؤيد بعوامل كثيرة، فهذه الصناعة مدعومة بأكثر من 40 عاماً من الخبرة في كوريا، وهو أكثر ما يميّزها عن الصين في هذا المجال، وكذلك بشركات ضخمة مثل «سامسونغ» و«إي كي هاينكس»، والتي لديها الرغبة الصريحة بالاستثمار في هذا المشروع. وقد استثمرت «سامسونغ» وحدها فيه بنحو 375 مليار دولار. كما أن اليد العاملة الماهرة والخبرات العلمية متوافرة في كوريا الجنوبية، مدعّمة بجامعات عريقة ومراكز أبحاث متميزة.
هذه الاستثمارات الضخمة مدفوعة بتوقعات لارتفاع الطلب العالمي على أشباه الموصلات التي زادت مبيعاتها في عام 2022 على 600 مليار دولار، ويتوقع أن تصل إلى 630 مليار هذا العام، وإلى أكثر من تريليون دولار عام 2030.
وفي ظل نمو مراكز البيانات والتخزين وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، من المتوقع أن تزيد مساهمة هذه الأنشطة في مبيعات الرقائق الإلكترونية من 100 مليار عام 2022، إلى نحو 250 مليار عام 2030. وقد صرح سام ألتمان المدير التنفيذي لـ«أوبن إيه آي» أنه لا يوجد بالفعل ما يكفي من الرقائق الإلكترونية لتلبية احتياجات شركته. وقد زار ألتمان كوريا الجنوبية، الأسبوع الماضي، والتقى الشركات المصنعة لهذه الرقائق.
إن استثمار كوريا الضخم في الرقائق الإلكترونية هو لأهداف اقتصادية واستراتيجية، فصناعاتها المحلية تعتمد عليها، وهي الركيزة الأهم في اقتصادها. وقد أصبحت كوريا بيت خبرة عالمياً في هذه الصناعة، وخلقت منظومة متكاملة يعمل فيها ملايين الكوريين من أصحاب المؤهلات العالية والخبرات النادرة. والواضح من التوجه العالمي أن أهمية هذه الرقائق في ازدياد مستمر، وأهميتها الاستراتيجية بوصفها عنصراً أساسياً في الذكاء الاصطناعي لا تزيدها إلا قوة؛ ولذلك فإن الإعلان الحكومي عن هذا الاستثمار الضخم وبكل الدعم التشريعي والمالي والسياسي مبرر ومفهوم، فهذه الصناعة هي مستقبل العالم الذي تسعى كوريا لأن تكون في قلبه.