مشروع ولاية الفقيه: الطائفية بديلاً للقومية والشيوعية

25

 

منذ انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، لم يكن ظهور نظام “ولاية الفقيه” مجرّد تحوّل داخلي في إيران، بل جاء كركيزة لمشروع دولي واسع، هدفه إعادة صياغة النظام الإقليمي في الشرق الأوسط. هذا المشروع لم يكتف بإحداث خلخلة في توازن القوى، بل استهدف بشكل مباشر تفكيك الأيديولوجيات القومية والاشتراكية، التي كانت تمثل تهديدًا حقيقيًا للنفوذ الغربي، واستبدالها بأيديولوجيات دينية طائفية قابلة للتفكيك وإعادة التوظيف.
سياق سقوط الأيديولوجيات القومية والشيوعية . في سبعينيات القرن الماضي، كانت الحركات القومية والاشتراكية تهيمن على المشهد السياسي في العالم العربي. الناصرية في مصر، والبعث في العراق وسوريا، والحركات اليسارية في اليمن والسودان، شكّلت جميعها أطرًا فكرية تقف في مواجهة التغلغل الغربي وتتبنى مشاريع تحرّر وطني. لكن هذه الأيديولوجيات، رغم قوتها، لم تكن سهلة الاحتواء من قبل المعسكر الغربي، لا سياسيًا ولا أمنيًا.
ومع تزايد النفوذ السوفيتي في المنطقة، بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها يبحثون عن بديل أيديولوجي أكثر قابلية للضبط والسيطرة. هكذا تم الالتفات إلى الدين، ليس من باب قيمه الروحية، بل بوصفه أداة لتفجير الانقسامات الطائفية الكامنة، وتفتيت المجتمعات من الداخل.
الخميني وإعادة تعريف التشيّع السياسي عودة الخميني إلى إيران بدت وكأنها لحظة انتصار للثورة الشعبية، لكنها في عمقها كانت جزءًا من رؤية دولية جديدة لإعادة تشكيل النفوذ في المنطقة. نظام “ولاية الفقيه” أُسّس ليحلّ محل النماذج القومية والاشتراكية، ولكن عبر بوابة الطائفة والمقدّس. لم يكن الأمر تحوّلًا دينيًا بحتًا، بل كان إدخال الطائفية الشيعية إلى معادلة الصراع الإقليمي، وتحويلها إلى أداة اختراق للمجتمعات السنيّة، وكسر وحدتها من الداخل تحت شعارات “نصرة المستضعفين”.
لقد تحوّل التشيّع الثوري إلى مشروع سياسي يتجاوز الحدود الوطنية، ويتبنّى خطابًا أمميًا شبيهًا بما كانت تفعله الأحزاب القومية واليسارية، لكن هذه المرة باسم الطائفة، لا باسم الأمة أو الطبقة.
صناعة التوازن الطائفي بين إيران والخليج وتركيا المجتمع الدولي لم يترك إيران تحتكر الدين كأداة سياسية. فجاء الدعم السعودي لتصدير نموذج “الإسلام السنّي المحافظ”، ومن ثمّ وُظِّف الإسلام السياسي السنّي في تركيا ليشكّل قطبًا موازنًا. بهذا تم خلق توازن طائفي ثلاثي: شيعي بقيادة إيران، وسني محافظ بقيادة الخليج، وسني سياسي بقيادة تركيا. وكل طرف لديه مشروعه الخاص، لكن تحت سقف واحد: منع أي عودة للأيديولوجيات القومية أو الاشتراكية، ومنع بروز دولة وطنية قوية مستقلة القرار.
الطائفية: أداة هندسة سياسية لا صدام عفوي ما نراه من صراعات طائفية في العراق وسوريا ولبنان واليمن ليس نتاجًا لحساسيات تاريخية قديمة فحسب، بل هو نتيجة تخطيط ممنهج لتحويل الطائفية من انتماء اجتماعي إلى بنية سياسية عميقة، يتم من خلالها تفتيت المجتمعات ومنعها من إنتاج مشروع وطني جامع. الطائفية هنا لم تكن نتيجة، بل وسيلة وغاية في آنٍ واحد.
المعادلة التي وُضعت عام 1979، والتي قامت على إسقاط القومية والاشتراكية، واستبدالها بالطائفية كأداة إدارة دولية، لا تزال تحكم المنطقة إلى اليوم. لكن المتغيّرات الدولية الكبرى من صعود الصين، والتحدي الروسي، إلى تصاعد التهديدات الأمنية في إسرائيل بدأت تدفع نحو إعادة التفكير في هذه المعادلة.
ربما لم تعد الطائفية مشروعًا مستدامًا كما تصوّر مهندسوها. وربما حان الوقت أمام القوى الدولية والإقليمية لإعادة النظر في هذا النمط من الهيمنة، وإتاحة الفرصة لنماذج حكم مدنية وعقلانية، قادرة على تحقيق الاستقرار دون تفتيت المجتمعات أو تفجير الهويات .

التعليقات معطلة.