المصدر: النهار العربي
محمد صلاح
كثيرةٌ هي الجسور التي تمّ تشييدها ضمن المشروعات القومية الكبرى في مصر لإعادة هيكلة البنية التحتية والنهوض بها. صار الانتقال من مدينة إلى أخرى بين ربوع مصر، رحلةً ترفيهية من دون معاناة او ازدحام، لكن يبدو أنّ هناك جسراً يحتاجه المصريون، وما زالوا يفتقدونه ويأملون لو تحقّق على أرض الواقع رغم كونه مجرد حلم لن يدركوه. اختار تولستوي أن يفتتح روايته “أنا كارينينا” بالعبارة الشهيرة: “كل العائلات السعيدة تتشابه، لكن لكل عائلة تعيسة طريقتها الخاصة في التعاسة”. ويبدو أنّ الأمر لم يعد يتوقف فقط عند العائلات وأنماط العلاقات الأسرية، إذ عرض تولستوي نماذج بشرية متنوعة، غالبيتها مريض بالطبقية أو النبل او الإرث الثقيل. نماذج مهتزة غير سوية، تتفاعل في داخلها صراعات كثيرة، أبرزها ما بين القلب والعقل، أو بين الحب والواجب، وما بين التخلّف وحركة التنوير، وانما يمكن أن تنطبق أيضاً على المجتمعات والدول، خصوصاً بالنسبة إلى المصريين الذين، ومنذ عصفت بهم رياح الربيع العربي، يعيشون أمواجاً متلاطمة من محاولات طمس هوية وطنهم، أو طمسهم هم أنفسهم، إذ ينظرون إلى وطنهم من زاوية غير تلك التي ينظر منها الآخرون لواقع الأحداث المتلاحقة فيه. فالسعادة او الرفاهية و حتى العيش الطبيعي أمور متشابهة بالنسبة لمن ينعمون بها، أما التعاسة أو الشقاء أو حتى الحزن، فيعيشه الناس أو المجتمعات كل بطريقته. تبدو وطأة ما يجري في مصر على المصريين شديدة لكن هم صامدون، ولأنّ وتيرتها سريعة فإنّهم يكادون بحكم الحنين إلى وطن هادئ واقتراب الوجدان يخرجون من حدث الى آخر حتى تشفق على أحوالهم، وتعتقد أنّهم صاروا في حاجة ماسّة إلى جسر للتنهدات يلتقطون عليه الأنفاس، ويرتاحون فيه من ألم المعاناة الممزوج بحنين إلى وطن أصبح في مرمى منصّات إعلامية ولجان إلكترونية صوّبت فوهات أكاذيبها إلى كل اتجاه، أو تقارير غربية تنقلب إلى مواد صحافية وإعلامية، يتمّ سرطنة وسائل الإعلام بها، بهدف وقف الحال أو تعطيله أو إرباك البلد وإدخاله في أتون المجهول. هل هو الشقاء على الطريقة المصرية؟ ربما كما كان لشعوب أخرى شقاؤها، والواقع يشير إلى أنّ الشقاء في السنوات الاخيرة كان للعرب نصيب كبير منه. المتردّدون على العاصمة البريطانية وتحديداً في مدينة أوكسفورد، يعرفون جسر التنهدات، على رغم أنّ أحوال البريطانيين، نسبياً، لا تدعو إلى التنهد، وهو الجسر الذي أخذ اسمه من جسر التنهدات الشهير الواقع في مدينة البندقية الإيطالية، الذي تحوّل إلى مزارٍ سياحي، ورواية شهيرة لميشال زيفاكو. يمرّ الجسر فوق نهر “ريو دي بالازو”، وكان يُستخدم قديماً كحلقة وصل بين مبنى السجون وقصر الحاكم. بُني هذا الجسر سنة 1602، وصمّمه المعماري الإيطالي الشهير انتوني كونتينو. وإضافة إلى رواية زيفاكو، أشار اللورد بيرون إلى الجسر في قصيدة شعرية بعنوان: “شيلد هارولدز”. وفوق الجسر كان يمرّ السجناء ليؤخذوا إلى زنزاناتهم، وكانت المدينة البديعة هي آخر ما كان يراه السجين وهو يمرّ داخل الجسر عندما ينظر من شرفاته. وفي القرن التاسع عشر أطلق اللورد بايرن اسم “جسر التنهدات” على هذا الجسر، وذلك لأنّ السجناء كانوا يتنهدون ويلتقطون أنفاسهم وهم يُساقون عليه إلى محبسهم، وذلك عندما يلقون النظرة الأخيرة على مدينتهم وأشعة الشمس التي كانوا يشتاقون إليها طول فترة سجنهم. يحتاج المواطن المصري إلى قليل من الهدوء، والبُعد عن الصخب والضجيج والصراخ والعويل، والكف عن الانتباه الدائم والحذر المستمر والترقّب المتواصل، وربما يحتاج المصريون إلى جسر للتنهدات يمرّون عليه فيتنفسون هواءً خالياً من التوتر والاحتقان وأكاذيب الإعلام وانتهازية المذيعين، وإرهاب “الإخوان” وشطط النشطاء وخيانات المتآمرين، وأوجاع الأزمات الحياتية ونار الأسعار وتصريحات المسؤولين المستفزة وتفاهة القضايا التي يشغلون بها الناس، و”خناقات” الليبراليين مع رجال الدين ومواءمات السلفيين مع الجميع ثم صداماتهم مع الجميع أيضاً، وتطرّف المتشدّدين يميناً ويساراً، وانقلابات “الناصريين” على مبادئهم ومواقفهم، وانفلات بعض الفنانين وضحالة ادعياء الثقافة ومروّجي الانحلال، ومعاناة التعامل مع الأجهزة الرسمية لتخليص معاملة أو الحصول على شهادة أو ترخيص وصخب الذباب الإلكتروني وأنهار العنف اللفظي ومؤامرات مروّجي الفتن. جسر التنهدات في أوكسفورد أو البندقية اعتُبر ظاهرة إنسانية سجّلت الكثير من القصص لسجناء كان لدى كل منهم قصته الخاصة، واليوم تتدفق أخبار مصر إلى الخارج، وبعضها تمّ نسجه أصلاً في الخارج، ويتلقّفها المصريون داخل بلدهم، وكذلك في عواصم ومدن بعيدة من وطنهم، حيث تشعر وأنت تتحدث اليهم أنّ التنهدات ليست فقط من نصيب السجناء أو حتى العشاق. تكتشف وأنت تنظر أنّ الربيع العربي حُرق بأيادي من صنعوه أو ركبوه وامتطوه، وكذلك من تضرّروا منه، فتحوّل جحيماً يكافح البلد آثاره حتى اليوم، وأنّ ثورة 30 حزيران (يونيو) يتمّ تشويهها بتراخي من وقفوا خلفها أو أطيح بهم بتأثيراتها. رموز جرى حرقها أدبياً واغتيالها معنوياً، بعدما عصفت الأكاذيب بسمعتهم وتاريخهم، أجهزة استخبارات ووسائل اعلام ومراكز للأبحاث ومنظمات حقوقية وجماعات وصفحات ومواقع إلكترونية. يحتاج المصريون إلى جسر للتنهدات، لكن زمن زيفاكو ولّى، وهم لم يختاروا أن يعيشوا تعاستهم على طريقتهم، وإنما هناك واقع مليء بالمؤامرات والفتن والجرائم والأخطاء داخل بلدهم يؤلمهم، وتحالفات تجري خارج بلدهم هدفها الإضرار بهم حتى لا ينتقلوا من مربّع التعاسة إلى مربّع السعادة، التي تحدّث تولستوي عنها أيضاً، لكنهم لم يجدوها بعد.