مصر والسودان

1

د.احمد مصطفى

” هناك قضايا إقليمية أخرى تتباين فيها إلى حد ما مواقف مصر والسودان، ويسعى كل بلد لتحقيق مصالح قريبة قد تجعله يتخذ مواقف ربما تؤثر على مصالح البلد الآخر. لكن ذلك وإن بدا طبيعيا في السياسة يتحول إلى ما يشبه الحرب على الانترنت. ويغذي ذلك تراكم تصورات خاطئة لا يمكن انكارها ترسخت منذ أيام الاستعمار ـ العثماني والبريطاني ـ ويتحملها الطرفان وإن كان نصيب الطرف المصري الأكبر بحكم مكانته وموقعه.”
يشير التصعيد الإعلامي الحالي بين مصر والسودان حول مشاكل حدود أو أي مشاكل أخرى إلى أن حملة منظمة مستمرة منذ فترة دخلت مرحلة جديدة، ليس فقط في بذر شقاق بين بلدين عربيين جارين كما هو الحال مع آخرين في السنوات الأخيرة، ولكن أيضا لإحكام الحصار على ما تبقى من المنظومة العربية بعد اضطرابات ما سمي “الربيع العربي” مطلع العقد الحالي. ولعل في القلب مما تبقى مصر متماسكة، رأينا كيف ينساب عليها الإرهاب من ليبيا وتشتعل سيناء على حدود فلسطين .. ويشكل السودان ممرا لتهريب الإرهابيين والسلاح عبر أراضيه الخارجة عن سيطرة السلطات ـ بالضبط كما تمر من شرق مصر خارج سيطرة السلطات المصرية. وفي الوقت الذي يستدعي فيه ذلك علاقات أوثق بين القاهرة والخرطوم لمواجهة ذلك الخطر الأكبر، تشتعل خلافات (يمكن أن توصف بأنها تافهة ـ لكن معظم النار من مستصغر الشرر بين حين وآخر.
هناك بالطبع من ينفخ في نار تلك الخلافات ـ وهي موجودة ومن الصعب القول بأنها مفتعلة، لكنها كان يفترض أن تحل في إطار علاقات جيدة بين البلدين ـ وفي مقدمتهم كتائب الإخوان الإعلامية ولجانهم الالكترونية. وليس تصاعد الخلاف حول ترسيم الحدود مجددا في الآونة الأخيرة إلا حلقة من حلقات “توتير” متعمد للعلاقات المصرية السودانية عله ـ كما يتمنى المغرضون ـ يشعل نيرانا على حدود مصر الجنوبية. ومهما كانت قدرة مصر، وتماسك جيشها وأمنها وتلاحمهما مع الشعب فان نيرانا من الشرق والغرب والجنوب لا تبقى أمامها الا البحر شمالا. ولتفعل بها العمليات الإرهابية والخلافات الإقليمية والنيران الحدودية ما لم تفعله سنوات الاضطرابات وحكم الإخوان. يتزامن كل هذا مع توجه أوروبي وغربي متردد في مساندة مصر، بل ان بعض دوائره تنقلب عليها بغية إعادة الإخوان ولو للحياة السياسية على الأقل ـ وليس للحكم الآن، كما يحاولون في ليبيا مثلا.
تلك الجهود لتفجير العلاقات، غير الجيدة أصلا، بين القاهرة والخرطوم لم تقتصر على الحكومات بل إن هناك جهدا منظما منذ سنوات قليلة على وسائل التواصل تسمم كل ما هو أخوي بين المصريين والسودانيين. وعلى أغلب الصفحات الرئيسية في فيسبوك وغيره تجد مداخلات بين حسابات تدعي أنها تمثل الطرفين تحفل بأقذع الشتائم وأسوأ العبارات وأقذع الأوصاف. وأتصور أن هذه الحملة المنظمة، التي تعاظمت منذ 2013 مع الإطاحة بحكم الإخوان في مصر، أخطر ما يحدث بين مصر والسودان لأنها تفت فيما بين الشعبين أكثر من تأجيج خلافات سياسية بين حكومات. وللأسف، لم تنتبه قيادات البلدين لخطورتها، وتركتها تتصاعد وتتأصل وكثيرون يراهنون على أن ما بين الشعبين أقوى من أي “ترهات” على الانترنت. ولعل ذلك الشقاق الالكتروني ـ الذي تغذيه قوى معينة، من خارج البلدين ولا تريد الخير لأي منهما ـ هو الذي ضخم موقف السودان من قضية سد النهضة. فمعروف أن للسودان موقفا من السد لا يتفق تماما مع الموقف المصري لكنه بالطبع ليس مؤيدا تماما للموقف الإثيوبي. لكن السجالات الالكترونية صورت ذلك وكان السودان متآمرا على مصر ومتحالفا مع أثيوبيا. وحتى ان كانت الحكومة في القاهرة تدرك الحقيقة وتتعامل مع الأمر على غير هذا النحو، إلا أن الناس بطبعها لا تصدق الحكومات وهذا ما يجعل الشائعات والافتراءات على الانترنت أشد خطرا.
هناك قضايا إقليمية أخرى تتباين فيها إلى حد ما مواقف مصر والسودان، ويسعى كل بلد لتحقيق مصالح قريبة قد تجعله يتخذ مواقف ربما تؤثر على مصالح البلد الآخر. لكن ذلك وإن بدا طبيعيا في السياسة يتحول إلى ما يشبه الحرب على الانترنت. ويغذي ذلك تراكم تصورات خاطئة لا يمكن انكارها ترسخت منذ أيام الاستعمار ـ العثماني والبريطاني ـ ويتحملها الطرفان وإن كان نصيب الطرف المصري الأكبر بحكم مكانته وموقعه. فهناك في خلفية العقل الجمعي المصري تصور بأن السودان “تابع” لمصر، ورغم كل الجهود على مدى نصف القرن الأخير منذ الاستقلال إلا أن ذلك لم ينته تماما. وفي المقابل هناك في خلفية العقل الجمعي السوداني تصور أن مصر “استعمار” للسودان ولم ينف ذلك تماما استقلال البلدين عن استعمار أوروبي زرع تلك الشرور بين الشعبين.
هذا للأسف ما يتغذى عليه جهد المغرضين الذين ينفخون في نار ما بين البلدين عبر اللجان الالكترونية على الانترنت. وبغض النظر عن الخلافات في المواقف، وحتى تضارب المصالح أحيانا، لا يمكن لهذا أن يستمر. وربما تكون مصر المتضرر الأكبر من استمراره لأن الخطر عليها أكبر وهي الأكثر استهدافا بتلك الحملات الخارجية التي تمول وتشجع من خارج وادي النيل. وليس أخطر من “التغاضي” عن ذلك واعتباره مجرد “لغو حديث” لا يفت في عضد العلاقات الأخوية التاريخية بين الشعبين. ولا نريد أن نضرب أمثلة على ما أدى اليه التغاضي عن مثل تلك الحملات المغرضة، فالأمثلة كثيرة وبعضها قريب في الزمان والمكان.مرة أخرى، يقع العبء الأكبر على مصر قيادة وشعبا لتدارك أي تدهور في علاقاتها بالسودان والحيلولة دون إنفاذ المغرضين الذين يستهدفونها بالسوء لأجندتهم بتعميق أي خلاف مع جنوب الوادي كما اعتاد جيلي أن يتعامل بقناعة مع البلدين: شمال الوادي وجنوب الوادي.

التعليقات معطلة.