في غزو عفرين
منذ اندلاع «الربيع العربي» وأردوغان يستعد لتحقيق حلمه بإحياء الخلافة العثمانية. جرب ذلك في تونس عبر حزب «النهضة» فاصطدم بحيوية التونسيين وواقعية مورو والغنوشي اللذين فضلا المشاركة في الحكم بدلاً من الاستئثار بالسلطة بدعم من أنقرة. ثم انتقل إلى مصر التي انحاز رئيسها الإخواني محمد مرسي إليه وراح ينسق معه كل خطواته فانقض على الدولة العميقة وسعى إلى تغيير رموز المؤسسات الراسخة وتعيين مسؤولين في الحزب بدلاً منهم أي أنه حاول «أخونة» كل السلطات. وعندما ثار الشارع ضده تدخل الجيش وأطاحه فكانت نهاية النفوذ التركي في القاهرة.
في ليبيا تردد أردوغان في البداية في مشاركة الحلف الأطلسي في الهجوم على طرابلس ثم تراجع وانخرط في الحرب. لكن تناحر الليبيين وعدم وجود تيار إسلامي قوي في البلاد جعله ينكفئ ويركز كل جهوده في سورية، فهي الأقرب جغرافياً والأكثر استعداداً لتقبل الفكرة نظراً إلى الوجود الراسخ للإخوان فيها وإلى صراعهم الدموي المستمر مع السلطة منذ الثمانينات، فضلاً عن رفع الغطاء العربي عن النظام. حاول في البداية إقناع الأسد بمشاركة رموز الإخوان في الحكم، من خلال تغيير الدستور وعدم اعتبارهم مجرمين لكنه فشل، فأقدم على فتح الحدود أمام النازحين الفارين من الحروب، وأمام كل من يسعى إلى إطاحة الأسد، من دول ومنظمات ومسلحين. واحتضن «الجيش الحر»، وساعد في التمويل والتسليح والتدريب، متعهداً إقامة حزام أمني على طول الحدود، دافعاً جماعات مسلحة إلى الاستيلاء على قرى في اللاذقية، حيث معقل النظام. وكان استعداد الولايات المتحدة وفرنسا لضرب دمشق عام 2013 فرصة ثمينة له لتنفيذ خطته، لكن تراجع أوباما عن ذلك أحبط مساعيه.
لم يكن العمل العسكري وحده ما خطط له أردوغان ونفذه، بل استبق ذلك، ثم رافقه، بتحرك سياسي حين رعا تشكيل «المجلس الوطني» برئاسة برهان غليون (تشرين الأول عام 2011)، وبعض الشخصيات المعروفة بـ «علمانيتها» وعدائها للنظام. لكن الإخوان كانوا المسيطرين الفعليين على كل القرارات بدعم من أنقرة. كان «المجلس» يهيأ ليكون بديلاً للسلطة في دمشق، و «الجيش الحر» بديلاً للقوات الرسمية. واعترفت بالمجلس عشرات الدول «ممثلاً وحيداً للشعب السوري» لكنه مني بالفشل في نهاية الأمر ليحل مكانه «الائتلاف الوطني المعارض».
بعد سبع سنوات على الحرب في سورية يعود أردوغان إلى إحياء حلمه القديم- الجديد بإقامة حزام أمني في الأراضي السورية، مستخدماً «الجيش الحر» وبعض التشكيلات التركمانية السورية غطاء لتقدم قواته إلى عفرين، إثر انسحاب الروس من المنطقة، في خطوة تقول موسكو عنها إنها لإفساح المجال أمام القوات السورية لتولي الأمر فيها بالتعاون مع الأكراد الذين يتهمونها وواشنطن بخيانتهم، وتركهم وحيدين في مواجهة الغزو التركي. غزو تؤكد أنقرة أنه لمنع إقامة كيان مستقل، ما يشكل خطراً كبيراً عليها، فأكرادها يسعون إلى الانفصال منذ الثمانينات ويخوضون حرباً ضد أنظمتها العلمانية والإخوانية كلفت آلاف القتلى والجرحى. وليس مستبعداً أن تنتقل المعارك إلى داخل تركيا إذا طالت عملية الغزو المعقدة المرتبطة بالموقفين الروسي والأميركي، فموسكو ترى في الوضع فرصة لتحييد عفرين وإجبار الأكراد على التعاون مع دمشق، وواشنطن ترى فيه فرصة لتثبيت نفوذها مقابل النفوذ الإيراني.
محاولات أردوغان إحاطة تركيا بأنظمة إخوانية، تمهيداً لتجديد العثمانية وعصرنتها يصطدم بسعي حلفائه وخصومه إلى تثبيت نفوذهم في سورية وبالخطر الذي يشكله الأكراد في الداخل، وما غزو عفرين سوى هروب إلى الأمام فلن تفيد الأيديولوجيا الإخوانية في الحلول مكان الواقع في بلد ممزق مثل سورية، والدليل أنه لم يستطع فرضها في بلاده، على رغم استخدامه القوة وزجه الآلاف في السجون وإقفاله كل الصحف المعارضة.
غزو أردوغان عفرين بداية مرحلة جديدة في الحروب السورية، والحلول السياسية ما زالت بعيدة المنال.