سالم الكتبي
لم تلق تاكيدات مايك بينس نائب الرئيس الأمريكي بأن السفارة الأمريكية لدى إسرائيل ستنتقل إلى القدس في نهاية عام 2019، أي تعليقات أو ردود فعل واضحة على الصعيدين العربي والإسلامي، رغم أن هذه التصريحات لا تقل خطورة عن تصريحات ترامب بشأن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. تصريحات بينس بالغة الأهمية لأسباب عدة أولها أنا تعد البرنامج الزمني الفعلي لنقل السفارة، وبالتالي فهي تأكيد رسمي على تنفيذ القرار الذي قال الكثير من المحللين العرب أنه يستهدف مجرد إعلان وفاء بوعد الرئيس ترامب بشأن نقل السفارة! وثانيها هذه التصريحات تعكس نظرة إدارة ترامب لردود الأفعال العربية والإسلامية تجاه قرار الاعتراف بالقدس، حيث بات واضحاً أن الإدارة لا تهتم بالغضب العربي والإسلامي ولا تلقي بالاً لكل المؤتمرات والبيانات والتصريحات المعبرة عن الغضب حيال القرار!
ربما لم ينتبه البعض إلى تغيير برنامج جولة بينس في الشرق الأوسط لتبدأ من مصر بدلا من أن تبدأ من إسرائيل، حيث كان من الواضح أن بينس قد درس ردود الفعل العربية والإسلامية جيداً، وقرر تغيير برنامج زيارته ليقدم في ختامها هدية جديدة لإسرائيل وهي تحديد موعد نقل السفارة، لاسيما أن الموعد قد اثير حوله لغط وجدل كبير، ولكن بات واضحاً أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان متأكداً من قوله أن نقل السفارة سيتم في عام 2019، وهي التأكيدات التي تهرب من نفيها بشكل مباشر البيت الأبيض مكتفياً بالقول أن تنفيذ القرار لا يزال يخضع للدراسة!
رغم إجماع المحللين في الصحف العربية على أن بينس قد عاد من جولته بخفي حنين، ومن دون تحقيق أي نتائج تذكر، فإن الواقع يشير إلى أنه قد توصل إلى قناعة مهمة بالمضي في الخطة الأمريكية بشأن القدس، حيث لم يتعرض بينس خلال الجولة إلى ضغوط او إحراجات كبيرة يمكن أن تدفع الإدارة الأمريكية إلى إعادة النظر في موقفها، فكل ماصدر خلال الزيارة كان متوقعاً بل كان أقل من المتوقع بمراحل، وعلينا أن نلحظ أن ردود الفعل بدأت تهدأ تدريجياً ونجحت واشنطن في امتصاص ردات الفعل الأولى وتمضي في قرارها بشكل واضح!
ثمة أمر آخر يتعلق بالتعاطي مع الولايات المتحدة كشريك أو راع رئيسي لعملية السلام، حيث سبق أن تحدثت في أحد مقالاتي عن ضرورة ألا تصرفنا شحنات الغضب عن رؤية الأمور على حقيقتها والتصرف بعقلانية، وكنت اتحدث عن البيانات الرسمية الصادرة عن بعض الفعاليات العربية التي ذهب بعضها إلى سحب رعاية عملية السلام من واشنطن، فيما ذهب آخرون إلى رفض دور الوسيط الأمريكي والمطالبة بوسطاء دوليين آخرين، وغير ذلك من الأمور التي تعبر عن انفعالات وقتية غاضبة وغير مدروسة، تضر أكثر مما تفيد بالقضية وأصحابها!
بعدما تأكد من الموقف الأمريكي، أعلن نتيناهو مؤخراً أن الولايات المتحدة هي الوسيط الوحيد في عملية السلام وأن من لا يريد الحديث مع واشنطن فهو لا يريد السلام! ومن المعروف أن أي عملية من هذا الوساطة لا بد من قبول طرفي التفاوض بالشريك او الوسيط، وهذا يعني أن إسرائيل ترتهن دخولها في أي حوار مع الفلسطينيين بوجود الجانب الأمريكي، او رعايته للعملية التفاوضية!
العاهل الأردني أكد في تصريحات له مؤخراً أيضاً أنه لا يمكن أن تكون عملية سلام او حل سلمي للصراع من دون دور للولايات المتحدة، وأن من الضروري العمل على إعادة بناء الثقة بين الفلسطينيين والولايات المتحدة، وهي تصريحات مهمة للغاية، برأيي، لأنها توفر الغطاء الذي يحتاجه الجانب الفلسطيني للنزول من أعلى الشجرة التي صعد إليها في مواقفه بشأن قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبالتالي يجب فهمها والاستفادة منها فلسطينياً بدقة لأن الاكتفاء بانتقادها يعني ضياع فرصة أخرى لتوفير غطاء لحفظ ماء الوجه!!
تصريحات العاهل الأردني التي أدلى بها في “دافوس” تتناقض مع الموقف الفلسطيني الرسمي، الذي ذهب إلى وقف الاتصالات مع الإدارة الأمريكية الحالية معتبراً إياها وسيط غير نزيه في عملية السلام، وهي كذلك بالفعل، ولا شكوك حول هذا الأمر، ولكن الموضوعية تقتضي التساؤل: منذ متى كانت الولايات المتحدة وسيط نزيه في عملية السلام؟! ومنذ متى لم تنحز وشنطن لوجهة النظر الإسرائيلية سواء في ملف القدس أو غيرها؟! بالتأكيد لم يتغير شيء على أرض الواقع سوى “الأسلوب” أو “التكتيك” الذي تنتهجه إدارة ترامب في التعبير عن وجهات نظرها، وهو تكتيك صادم ولا يختص بقضية القدس فقط، بل في مختلف ملفات السياسة الخارجية الأمريكية، وبالتالي فإن كل مافعلته هذه الإدارة هو “تعرية” النوايا الأمريكية وكشفها وانهاء مساحات الجدل والنقاش حول هذه النوايا والأهداف!
مايك بينس لم يأت بشىء جديد في إطار مواقفه ورؤيته للقضية الفلسطينية، فقد سبق له أن قال في مؤتمر جماهيري “إن لم يكن العالم يعرف أي شيء فيجب أن يعرف هذا: أمريكا تقف مع إسرائيل”، فهو يخاطب الناخبين الأمريكيين الانجليليين الذين دعموا ترامب في انتخابات الرئاسة، وهو من صقور البيت الأبيض في ما يتعلق بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ومارس ضغوطاً شديدة على الرئيس ترامب كي لا يؤجل هذا القرار بحسب ما نقلت تقارير إعلامية أمريكية، فهو “صديق موثوق لإسرائيل” بحسب مصادر إسرائيلية متعددة، لذا كانت تصريحاته خلال لقاء نتيناهو في القدس عاكسة لمواقفه وقناعاته حيث قال “إنه لشرف عظيم أن أكون هنا في القدس عاصمة إسرائيل.. نحن على أعتاب مرحلة جديدة من مساعي تحقيق السلام وحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي”.
العرب والمسلمون الان في مواجهة تطور جديد وهو تحديد موعد نقل السفارة الأمريكية للقدس، بعدما سقطت الرهانات على امكانية إعادة النظر في قرار ترامب، الذي كان يقول عقب إصدار قراره أنه لن ينقل السفارة الأمريكية إلى القدس في الوقت الحالي لأنه “يريد أولا إعطاء فرصة للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين”، فلا فرصة ولا علاقة لتنفيذ القرار إذاً بعملية السلام، كما انهارت التوقعات القائلة بأنه من المبكر الحديث عن نقل السفارة الأمريكية للقدس، فلدى الجميع الآن موعد محدد لتنفيذ القرار!
لا يزال البعض يعتقد أن إعلان بينس يستهدف ابتزاز الجانب الفلسطيني وإخضاعه للشروط الأمريكية، وقبوله بالحلول المطروحة، وهذا الأمر وارد في أي عملية سياسية، فالسياسة لها أدواتها، ولكن على الطرف المتضرر، أي نحن كعرب، امتلاك البدائل والحلول وليس فقط الاكتفاء بتحليل أبعاد سلوكيات الطرف الآخر، لاسيما إذا كان هذا الطرف قابضاً بالفعل على أوراق اللعبة الدولية وليس فقط اللعبة الإقليمية!! قد ينظر البعض إلى كلامي باعتبارها استسلاماً غير مبرر أو تهاوناً في الحقوق العربية ولكني احلل ما أراه من تطورات ومواقف ولست صانع قرار، وحاولت وسأظل أحاول، الحد من التقليد السخيف في السياسة العربية، القائم على سياسات انفعالية غي متزنة في بعض الأحيان تصل بصاحبها إلى مواقف يصعب عليها التراجع عنها ومن ثم تبدأ رحلة الخسارة والتراجع!!
التاريخ القريب والبعيد يقول إن الشعارات والسياسات الانفعالية كانت السبب في خسائر كثيرة للعرب، وما اريده ان نمارس السياسة بحسب قواعدها وألاعيبها ايضاً، فالسياسي يختلف عن رجل الشراع في الثبات الانفعالي، ومن ثم بناء المواقف واتخاذ القرارات!!